تفسير قوله تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)
قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: ٧٦]، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩]، حاشا الله ومعاذ الله، وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
وقد أعطاهم الله عقولاً تميز وتعي وتفكر، ورزقهم العافية والشباب والقوة؛ ومع ذلك فإنهم أنكروا الرازق والمحيي والخالق، وبقوا على هذا الكفر مع ما أعطاهم الله من فرصة العمر، فأعطاهم سبعين سنة، أو مائة سنة، أو خمسين سنة، أو أربعين سنة، فكذبوا علماءهم ووراث أنبيائهم، ولم تفد فيهم موعظة نبيهم ولا أمر رسولهم، ولا علم صحابي أو تابعي فأبوا إلا الكفران والجحود مدة حياتهم إلى أن ماتوا على الكفر.
فهؤلاء قد أنذروا بذلك، وبلغتهم إياه أنبياؤهم وورثة أنبيائهم، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين، والشرك أعظم الظلم.
والله الكريم لا ينفعه إيمان أهل الأرض كلهم لو آمنوا، ولا يضره كفرهم جميعاً لو كفروا، قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) والعكس بالعكس: (ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
(وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين) ظلموا أنفسهم بالشرك والجحود والكفر، وهم الذين سببوا على أنفسهم هذا العذاب في النار، وينادون بعد أن اشتد عذابهم وزاد بؤسهم وهم يعلمون أنه لا فائدة، ولكن الألم أنطقهم، والعذاب دفعهم للقول، وهم يعلمون أنه لا يستجاب لهم، قال تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزخرف: ٧٧].
ومالك كبير حرس النار، وهو ملك من ملائكة الله المقربين، وملائكة النار غير ملائكة الرحمة، فملائكة الرحمة يأتون لأهل الرحمة باللطف وباللين وبالدعوة الصالحة وبالكلمة الطيبة، ويشهدون للمؤمنين بالخير، أما ملائكة العذاب فهم غلاظ شداد كما قال ربنا: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦] وكل فعلهم وعملهم بهذا التعذيب في النار هو بأمر الله ليس لهم في ذلك أمر ولا نهي.
وحرس النار كثيرون وكبيرهم مالك، وينادي الكفار ملائكة النار فلم يجيبوهم ولم يهتموا بهم ولم يلتفتوا إليهم، فأخذوا ينادون خازن النار، قال تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧] وهم آيسون من الرحمة ومن الخروج من النار فطلبوا الموت، ولو أنهم وجدوا الموت لانتحروا ولقتلوا أنفسهم، ولكنهم مع ذلك لا يموتون، فيزداد العذاب ولا موت، وعندما يدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة يذبح الموت بين الجنة والنار فيقال لهما: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت).
وقد روى ابن عباس: أن هؤلاء يبقون ألف سنة وهم ينادون: يا مالك، يا مالك، ليقض علينا ربك، وبعد ألف عام يجيبهم مالك زيادة في تعذيبهم ويقول لهم: إنكم ماكثون، أي: أنتم مقيمون في النار أحياء ولا موت أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تخفيف للعذاب.