تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى)
قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦].
يقول الله: سيكون العذاب وستكون النقمة يوم البطشة الكبرى، وما البطشة الكبرى إلا يوم القيامة في الآخرة بعد الحساب والعرض على الله، وهي دخول هؤلاء وأمثالهم إلى الجحيم معذبين خالدين فيها أبداً.
فقوله جل جلاله: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦] أي: إنا ننتقم منكم - لكذبكم وشرككم - يوم نبطش البطشة الكبرى، والبطشة الكبرى هي يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم الحساب العسير ودخول النيران.
وابن مسعود يرى أن البطشة الكبرى كانت يوم بدر، حيث بطش الله بهؤلاء الذين دعا عليهم رسول الله ﷺ بسنين كسني يوسف، فعذبوا وأجيعوا وذلوا، ثم جاء بعد ذلك أبو سفيان يرجو رفع ذلك الغضب وذلك المقت عنهم، فرفعه الله فترة من الزمن، ولكنه قال: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) فعادوا إلى الكفر، فبطش الله بهم يوم بدر بين قتيل وشريد وأسير ومصاب.
نقول: نعم كان يوم بدر بطشة، ولكنها ليست البطشة الكبرى، فالبطشة الكبرى في يوم القيامة، يوم يدخلون النار معذبين مهانين أذلاء أبد الآبدين، بعد تلك البطشات في الدنيا، من بطشة بدر إلى بطشة الأحزاب، إلى أخذ أموالهم وأسرهم عبيداً وإماء، إلى تشريدهم وطردهم، ثم بقوا على الكفر مصرين مقيمين.
وعندما نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨] اختبرهم الله آمراً بذلك رسوله حتى يُعلِم المؤمنين بأن الشرك نجس لا تطهره البحار كلها، فلا يدخل مكة مشرك.
وهكذا فعل رسول الله ﷺ في المدينة عندما هاجر إليها فقال: (إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم المدينة) فأصبحت مكة والمدينة الحرمين الشريفين اللذين لا يجوز فيهما كثير مما يجوز في غيرهما.
والحسنة في مكة بمائة ألف، والسيئة بمائة ألف، وفي المدينة الحسنة بألف والسيئة بألف، والغرم بالغنم، وهذا ما حمل الصحابيين الجليلين العالمين الكبيرين عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو على أن يسكنا الطائف، وكانا يترددان على مكة المكرمة، حيث رأيا أن السكنى بمكة صعبة على من يراعي الأدب فيها بلا ذنوب كبائر ولا صغائر، ومهما كانت الحسنات التي هي بمائة ألف فإن الذنوب التي لا يكاد يخلو منها إنسان قد تمحو الحسنات كلها، فرأيا من أجل ذلك أن يكونا في الطائف حتى إذا حصلت سيئة تكون بواحدة، وإذا جاء إلى مكة للصلاة وللتلاوة وللذكر وللمقام في بيت الله الحرام تكون الحسنة بمائة ألف، ويكون ذلك أربح لهم.
فإن قال هذا مثل هذين الصحابيين الجليلين الكبيرين فما عسانا أن نقول نحن وذنوبنا مستفيضة ومتكاثرة؟! غفر الله لنا ما علمنا وما لم نعلم، وجازانا بالحسنات بفضله وكرمه جل جلاله.
يقول تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦]، والنقمة العقاب والعذاب نتيجة المعصية والمخالفة والذنب، فكان ذلك انتقاماً وعقاباً وعذاباً لهؤلاء، لمخالفة أمر الله، وعصيان أوامر رسوله، والخروج عن كتاب الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.