تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ [الدخان: ١٧ - ١٨].
إن كفرة قريش عذبوا بالدخان في رأي ابن مسعود، وعذبوا بالتشريد وبالطرد وبالقتل وبالأسر، بعد أن عاهدوا على ألا يعودوا إلى الكفر إذا رفع عنهم العذاب، وقد رفع عنهم فترة بعد فترة وزمناً بعد زمن، ومع ذلك كانوا يعودون إلى الكفر، ولذلك ذكر الله أشباههم في الماضي.
والذي أشبههم في ذلك هو فرعون وقومه الذين أرسل الله إليهم النبيين الكريمين موسى وهارون، فأرسل عليهم الآيات من القمل والدم والضفادع والنقص في الأموال وفي الأنفس وفي الثمرات، وفي كل مرة كانوا يأتون إلى موسى ويقولون: ﴿يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ﴾ [الزخرف: ٤٩].
يأتون إلى موسى وينادونه بالكلمة التي لا يليق أن تخاطب بها الأنبياء والرسل، ويطلبون منه الدعاء، ويعدونه إن رفع مقت الله عنهم وغضبه بأن يعودوا إلى الإيمان والتوحيد، فيرفع الله ذلك بدعوة موسى وهارون، ولكنهم لا يتوبون، فيعودون إلى الكفر والمعصية، ويعود الله عليهم بالعذاب.
ولذلك كان ذكر هذا بعد ذكر هؤلاء للتشابه في ذلك، وليكون هذا مثالاً وتبياناً للكفرة الذين يصرون على الكفر، حتى إذا خطر ببالهم ألا يوفوا بالعهد وألا يؤمنوا عوقبوا معاقبة فرعون وقومه وكفار قريش وجميع من فعل ذلك من العرب والعجم في الجزيرة وخارج الجزيرة.
فنحن نرى عندما نستعرض تاريخ العالم الإسلامي منذ أن ظهر الإسلام وبرز رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذه الديار المقدسة، أنه كان للمسلمين من العز ومن الخير ما علوا به، ثم بعد موت رسول الله عليه الصلاة والسلام أخذوا يغيرون ويبدلون، فقتلوا عمر، وقتلوا عثمان، وقتلوا علياً، ثم قتلوا الحسين ورسول الله ﷺ لا يزال جسده رطباً حاراً في قبره، فلم يهابوه، بل ولم يهابوا خالقه جل جلاله، وإذا بالله يبتليهم فتقوم بينهم معارك مات فيها مئات الآلاف، ولو بقيت هذه الآلاف لفتحت العالم كله، ولما بقي على وجه الأرض نصراني ولا يهودي ولا منافق، ولكن الله يفعل الله ما يشاء ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣].
ثم تابوا فتاب الله عليهم، ومضت برهة فإذا بحروب تقوم نتيجة للخلافات من دولة أموية إلى دولة عباسية إلى تسلط المجوس الذين جاءوا في شكل المسلمين وهم منافقون، إلى الحروب الصليبية التي دامت أكثر من مائة عام في الأرض التي ابتلي فيها المسلمون، فدعوا الله فرفع مقته وغضبه عنهم، وعاد عليهم بالخير العميم وبالنصر المؤزر المبين.
وبعد ذلك عادوا لما نهوا عنه، فسلط عليهم التتر فمسحوا الأرض، واستباحوا دماء المسلمين، وخربوا المدن، ثم تابوا وأنابوا فقبل الله توبتهم وعادوا إلى العز والسلطان، فعادوا بعد ذلك إلى المعصية والخلاف، فسلط الله عليهم الاستعمار الأوربي، فشرد وأهلك ومزق.
فدعوا الله فرفع ذلك عنهم وتابوا وأنابوا، ثم عادوا لما نهوا عنه، فسلط الله عليهم أذل خلقه وألعن خلقه إخوة القردة والخنازير من اليهود عبدة الطاغوت والشيطان.
فالأمر لا يحتاج إلى قوة كثيرة، إن القوة لله جميعاً، وإنما يحتاج إلى العودة إلى الله، فبقليل من القوة ينصر الله المسلمين وينصر عباده الصالحين.
رفع الله ما بنا من مقت وغضب، وأعادنا إليه تائبين منيبين، وأذل أعداءنا وهزمهم وانتقم منهم.


الصفحة التالية
Icon