تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)
قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤].
هذه السورة مكية، ولم يشرع القتال بعد، وقد أمر الله المؤمنين طيلة سكناهم في مكة أن يتحملوا ظلم الكفار وأذى الكفار ويصبروا على ذلك، فلعل منهم من يؤويهم ويقوى به جانب الإسلام، وهكذا ابتدأ الإسلام مدة ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة بلا قتال ولا جهاد.
وكان ﷺ قد أوذي بالقول، وأوذي بالفعل، ومع كل ذلك كان يأتي إليه المؤمنون يريدون الكفاح والجلاد ومقاومة الشر بالشر، فيقول لهم: (لم أومر بالقتال بعد)، وكان يمر على أسرة كاملة -وهم عمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه سمية - تعذب العذاب الأليم، ويرى ذلك، فلا يزيد على قوله لهم عليه الصلاة والسلام: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، وهكذا حتى استشهدت سمية، وكانت أول شهيدة في الإسلام.
وتلك مفخرة للمرأة في الإسلام، فأول شهيد في الإسلام كانت امرأة تحمّلت العذاب وتحمّلت المكر وتحمّلت ما لا يتحمله الرجال الأقوياء، فصبرت إلى أن لقيت الله شهيدة موحدة.
قوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ١٤].
أي: قل -يا محمد- للمؤمنين: (يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)، أي: الكافرين الذين لا يخافون أيام الله، ولا يخافون عذابه، ولا يخافون نقمته، ولا يؤمنون بكتابه، ولا يؤمنون برسوله، ولا يؤمنون بالرسالة.
فأمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يأمر المؤمنين ليغفروا وليصفحوا ولا ينتقموا ولا يعاملوا الكفار بالمثل، وكان هذا قبل فرض الجهاد، ولم يفرض الجهاد إلا في المدينة المنورة، وكانت أول آية نزلت من الله جل جلاله في ذلك هي قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: ٣٩ - ٤٠] فشرع القتال وأُذن فيه.
ومعنى ذلك أنهم استأذنوا رسول الله في الكفاح والجلاد والحرب، فلم يأذن لهم إلا في المدينة حيث أصبح لهم موطئ قدم في الدولة الإسلامية لتكوين الجيش، ولتكوين القوة، فلذلك أُذن لهم، كما أنهم كانوا في مكة قلة، وكانوا ضعافاً، فلو قاتلوا لقاتلوا من هم أكثر منهم بآلاف المرات، وهذا أمر لا يتم.
وبهذا نعلم أن في القرآن رداً على ما زعمه الكفرة والمنافقون من أن الإسلام انتشر بالسيف، فنحن نرى أن الفترة المكية على طول دعوة الإسلام فيها لم يكن فيها قتال ولا كفاح ولا جلاد، بل آمن الصحابة وأسلموا وهم تحت العذاب، وكل منهم كان معرّضاً صباحاً ومساءاً للقتل مع العذاب الشديد.
وقد قال أحد فلاسفة الغرب الكفرة: من زعم أن محمداً نشر إسلامه ودينه بالسيف فكأنه يقول: خرج رجل وحده في صحاري جزيرة العرب وحمل السيف وأخذ يقتل هذا ويضرب هذا ليدخلوا في دينه، ولا يقول مثل هذا الكلام إلا مريض العقل.
والأمر كذلك، والحق ما شهدت به الأعداء.
فقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ١٤] أي: يصفحوا عنهم ويسامحوهم.
وقوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤] (قوماً) نكرة، وهي تدل على العموم، أي: ليجزي كل قوم بما كسبوا، والباء سببية، أي: بسبب كسبهم وأعمالهم يدخلون الجنة إن كانوا مؤمنين، وإن كانوا كافرين فالنار والعذاب الأليم، وهذا تهديد ووعيد لهؤلاء، أعلمهم أن الله تعالى يتولى جزاءهم بما كسبوه من كفر وشرك وظلم.
وقد فعل ربنا، فما كاد النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ينتقلون إلى المدينة المنورة حتى أذن الله بالقتال، فقاتلوا ومكروا بأعدائهم في غزواتهم التي لا تزال مسجلة على التاريخ وإلى أبد الآباد منذ غزوة بدر إلى غزوة حنين، وهذا في الغزوات النبوية المحمدية، ودعك من الغزوات الأخرى التي كانت أيام الخلفاء الراشدين التي فتحوا بها العالم خلال خمسين عاماً، فصار المسلمون معلمي الناس وحكام الناس، وكانت السلطة بأيديهم دون جميع الناس.