تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية)
قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٨].
ترى يوم القيامة كل أمة جاثية، والجثو: أن يقف الإنسان على ركبتيه، وتكون أصابع رجليه على الأرض، فيوم العرض على الله سيعرض عليه خلقه قائمين على الركب، وهم في رعب وهلع يقول كل منهم: نفسي نفسي، فلا يفكر أحد في أحد، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٧].
يقول تميم الداري ويقول سلمان الفارسي: يوم يقول كل أحد: نفسي نفسي، حتى إبراهيم يكون جاثياً على ركبتيه ويقول: يا رب! نفسي نفسي، لا أطلبك إلا نفسي، ويكون عيسى كذلك جاثياً على ركبتيه يقول: يا رب! لا أسألك إلا نفسي، لا أسألك حتى مريم التي ولدتني.
فهو يوم عظيم ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢].
ولكن الذي يبقى في هذا اليوم حاضر الذهن عظيم الرجاء والدعاء والضراعة هو شخص وحد، وهو الذي أقامه الله المقام المحمود، هو محمد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).
فالخلائق يومها جاثية على ركبها مطأطأة تفكر في العذاب والحساب فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وتأتي الأمم إلى الأنبياء، فيأتون إلى نوح فإبراهيم فموسى فعيسى وكلهم يقول: نفسي نفسي، وبعضهم يقول: قد أذنبت وفعلت كذا وكذا، فتأتي الأمم كلها إلى رسول الله ﷺ فيقولون: اشفع لنا عند ربك.
فيقف ﷺ ويقول: (أنا لها أنا لها) ثم يذهب إلى تحت العرش فيسجد ويطيل السجود، ويحمد الله بمحامد يلهمها، وهو من هو في قوله ومحاورته وخطابته.
فيوم القيامة عندما يخر ساجداً لربه تحت سقف العرش يلهم دعوات أخرى بفصاحة وبلاغة أخرى بوحدانية لله فريدة، فيدعو الله ويضرع إليه، فيقال له: (ارفع رأسك، واشفع تشفّع، وسل تعط) ولا يكون هذا لأحد في هذا اليوم وفي هذا المقام العظيم إلا لخاتم أنبيائه وسيد رسله وأفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أكرمنا الله بشفاعته، وأسعدنا بها، وأدامنا على دينه، وأحيانا عليه وأماتنا عليه إلى أن نجتمع به على الحوض.
يقول تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ [الجاثية: ٢٨] يصف الله يوم القيامة يوم يخسر المبطلون، فهذا اليوم لو تراه يا رسولنا، ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ [الجاثية: ٢٨] وبهذه الكلمة سميت السورة سورة الجاثية، وهو من باب تسمية الكل باسم البعض.
قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ [الجاثية: ٢٨] فكل الأمم من عهد آدم إلى أمتك تراهم جاثين على الركب على الأرض ينتظرون أمر الله إلى جنة أو إلى نار، ولا يستشفع عنده أحد إلا بإذنه فقبل شفاعته جل جلاله وعز مقامه.
قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ [الجاثية: ٢٨] تدعى كل أمة إلى كتابها، فأمة القرآن تدعى إلى القرآن، وأمة التوراة تدعى إلى التوراة، وأمة الإنجيل تدعى إلى الإنجيل، ويقال لهذه الأمم: كيف كنتم مع هذا الكتاب المنزل عليكم؟ هل أحللتم حلاله وحرمتم حرامه وقمتم بحدوده؟ وهل تأدبتم بآدابه واعتقدتم عقائده؟ وهل تلوتموه أم نسيتموه واتخذتموه وراءكم ظهرياً؟ قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٨].
أي: يقال لهم: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٨]، فهذا يوم الجزاء، فالدنيا كانت مدارس، وكانت جامعات، والامتحان ليس في دار الدنيا، بل هو في الدار الآخرة، فمن جاء بكتابه بيمينه كان الناجح الفائز وذلك الفوز المبين، ومن جاء بكتابه بيساره كان الراسب الساقط، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، ولا عزة يوم القيامة إلا النجاة من عذاب الله ومن نار جهنم، ولا فوز يوم القيامة ولا نجاة كالفوز في الجنة والخلود فيها، جعلنا الله من أهلها، ومن سكانها بفضل الله وكرمه.