معنى قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤] فليس هناك قضية ولا عمل إلا هذه الحياة التي نحياها ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤] يموت منا أقوام ويحيا منا أقوام، وقد رتبوا القول فقالوا: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤] وهكذا ظنوا، وهكذا وهموا.
والله لم يخلق السماوات والأرض إلا بالحق، وما خلق ذلك باطلاً.
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص: ٢٧] وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فهيهات هيهات أن يكون هذا الهراء من القول ديناً، وأن يكون علماً، فقد قال هذا كفرة في جزيرة العرب، وكفرة في أرض الروم، وكفرة في مختلف بقاع الأرض، قالوه وقت أن قال هذا ربنا وأنزله على نبينا، ولا يزال ذلك مقولاً في أفواه قائلين به مستمسكين به، وهذا مذهب الفلاسفة الملحدين، ومذهب المعطّلين، ومذهب الشيوعيين، ودين الكفرة الذين لا يؤمنون بالله، فهم زعموا أن الحياة الدنيا هي الأولى الآخرة، وأنه لا شيء في الأرض إلا أن يحيوا ويموتوا، فيموت الآباء ويحيا الأبناء، ويذهب الأبناء ويأتي الأسباط، وهكذا سلسلة خلف سلسلة.
وهذا ما ورد في الصحيحين وفي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار).
ومعنى ذلك أن الدهر الذي ينسبون إليه هذا العمل ليس بيده شيء، فالدهر: هو معنى غير محسوس، فهو سنون وأوقات تمضي وتتبعها أوقات، فكيف بهذا المعنى يحيي ويميت ويرزق ويعطي ويعز ويذل؟! ولذلك جعل الله من يقول: (يا خيبة الدهر) شاتماً لربه؛ لأن الدهر ليس بيده شيء، ولا يملك أخذاً ولا عطاء، ولا حساباً ولا نشوراً.
وسب الدهر كثيراً ما يجري على ألسنة الناس، حتى المؤمنين، فإذا فات أحدهم شيئاً، أو رأى غيره أكثر حظاً منه في الحياة وأكثر رزقاً وأكثر جاهاً وأطول عمراً يذهب ويشتم الدهر.
وقد أجمع العلماء إلا الظاهرية على أن الدهر ليس اسماً من أسماء الله الحسنى، وإنما معنى كلام النبي ﷺ في الحديث القدسي المروي عن الله جل جلاله أنه: يسبني عبدي ويؤذيني فيقول: (يا خيبة الدهر) فيشتم الدهر، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار أقبضهما وأبسطهما، فمعنى ذلك أن هؤلاء الذين ينسبون إلى الدهر حياة ومماتاً وعطاء وأخذاً لم يعلموا أن الدهر لم يفعل ذلك، ولا يليق به ذلك، بل الله الذي يفعل ذلك، فمن يشتم الدهر يكون كمن شتم من فعل ذلك، والذي فعله هو الله جل جلاله.
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤]، فليست القصة، وليست القضية، وليست الرسالة بمجموعها إلا هذه الكلمات بزعم هؤلاء الكفرة الملحدين ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤] فما يهلك الإنسان بالموت إلا يومه وعمره، وطول أيامه وطول مكثه على هذه الأرض حتى يكل ويمل ويعجز عن القيام بشئون نفسه وبشئون الحياة، فيكون قد هلك ومات، وما ذلك إلا من طول دهره وطول أيامه وطول حياته وعصره.


الصفحة التالية
Icon