تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا)
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤].
قال لهم نبيهم: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤].
لا تكاد تمضي أيام حتى رأوا ريحاً جاءت من جهة الجنوب، قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالصبا وأهلكت قوم عاد بالدبور) والدبور ريح الجنوب، وتكون عادة ريحاً عقيماً مدمرة، أما الصبا فهي عادةً ريح خير وغيث، فرأوا الريح قد جاءتهم من الجنوب ولم ينتظروا ليميزوها، إنما رأوا عوارض الريح قد أقبلت فقالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] أي: هذا سحاب قد عرض لنا سيمطرنا ويغيثنا، وقد مضت عليهم سنوات لم يمطروا فيها ولم يغاثوا فيها وأجدبت الأرض ويبس الشجر وجف الضرع وقل الكسب وضعفت التجارة وقلت الصناعة، ولو آمنوا بالله وصدّقوا نبيهم هوداً لكان ما رجوه من رحمة ومن غيث، ولكنهم أبوا إلا الكفران والجحود.
قوله: ﴿مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ [الأحقاف: ٢٤] أي: رأوا السحاب مستقبل أوديتهم -جمع واد- ولما رأوا العارض مستقبل وديانهم ودروبهم وتلالهم ومزارعهم استبشروا خيراً، وكان ينبغي أن يستبشروا بالشر، ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] أي: هذا السحاب آت بالمطر والغيث والخيرات والأرزاق، وإذا بنبيهم يقول لهم: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٤ - ٢٥].
فهؤلاء عندما طغوا وتحدوا نبيهم واستعجلوا العذاب الذي خوّفهم منه أصابهم الله بما استعجلوا به وسلّط عليهم ريحاً عقيماً.
فقوله: ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤] أي: عذاب مؤلم مخز موجع.
وقوله: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥] رأوا خيامهم تتطاير، والأطفال والنساء تتطاير بهم العواصف كما تتطاير بالجراد وخفيف الطير، فأغلقوا عليهم بيوتهم، وإذا بالريح تشتد فتقلع الأبواب، وكان الواحد منهم تحمله الريح العاصف مئات من الأمتار فيلقى في باطن واد أو على شاهق جبل، فيجمع له بين الريح العقيم وبين الدهدهة من رأس الجبل إلى أسفل الحضيض؛ وهكذا حتى لم يبق فيهم عين تطرف أو روح تتحرك لا من إنسان ولا من دابة ولا من ماشية ولا من طير.
قال تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥] أي: لم تبق إلا المساكن خربة وخاوية وينعق فيها الطير والغراب، ذكر الله هذا وذكر المغزى في آخر الآية فقال: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٥] أي: وكما فعلنا بقوم عاد، والخطاب لقريش حاضراً ولأمة محمد كلها عربهم وعجمهم، حاضرهم وغائبهم، وهذا العقاب لا يزال قائماً بين عربنا وعجمنا، وبين مؤمننا وكافرنا، وبين أبيضنا وأسودنا وأحمرنا، وما نرى من هذه الآفات والمصائب، وما نرى من هذه الطوام هي جزء من هذا العذاب الذي أنذر الله به الأمم والشعوب، فقد أنذر الأمة المحمدية وضرب لها الأمثال والأشكال فيما صنعه بقوم عاد وبقوم ثمود وبقوم لوط وبقوم إبراهيم وبقوم فرعون، وبجميع الأمم الماضية الخالية ممن أشركت بالله وكفرت بنعمه وخيراته وأرزاقه، وهذا الحق الذي لا مين فيه ولا شك آمن به من آمن وكفر به من كفر.
فقوله: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٥] أي: كما جازى الأولين بكفرهم وشركهم كذلك يجازي أمثالهم من كل قوم مجرمين، والإجرام هنا: الشرك.


الصفحة التالية
Icon