تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)
قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: ٣٥] يخاطب الله عبده وحبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم، ويقول له: اصبر، وهي آية مكية في سورة مكية، والنبي عليه الصلاة والسلام مدة مقامه بمكة كان تحت اضطهاد قومه وتحت شتائمهم وتكذيبهم وإيذائهم له، فقد أدموا عقبيه ﷺ وهو الذي يفدى بالنفس والمال والولد، ورموا عليه جزوراً وتآمروا على قتله، ولبب في عنقه، وتآمروا على سجنه، وتآمروا على طرده، هذا مع التكذيب ومع ما كان يواجه به صلى الله عليه وسلم، وكان أحياناً يجد في نفسه شيئاً فالله يثبته ويقويه، فقال له: ﴿فَاصْبِرْ﴾ [الأحقاف: ٣٥] أي: تحمل ذلك واصبر قليلاً والعاقبة لك والنصر لك، والعاقبة على أعدائك بأن لهم الذل والهزيمة، ولهم العذاب في الدنيا والآخرة.
قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٣٥] أي: فاصبر كما صبر من سبقك من أولي العزم والحزم والإرادة من رسل الله من آبائك ومن إخوانك، فلا تكن بدعاً بينهم ولا تخرج عن سننهم بل اصبر كما صبروا، ومنهم أولوا العزم.
والجمهور يقول: هم خمسة: نوح عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، وموسى عليه السلام، وعيسى عليه السلام، ونبينا خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقال قوم: هم ستة، وقالوا: أكثر، وقالوا: جميع رسل الله أولوا عزم وحزم؛ فـ (من) هنا بيانية وليست تبعيضية كما تقول: اشتريت ثوباً من خزف، ولا تريد أن تقول: أخذت بعض الخزف فصنعته ثوباً، ولكنك تريد أن تبين أنك اشتريت ثوباً من خزف ليس قطناً ولا صوفاً، روي أن النبي ﷺ دخل على أم المؤمنين عائشة يريد طعاماً فلم يجد فقال لها: (نحن معاشر آل البيت لم يرد الله لنا الدنيا ولا تليق بنا الدنيا، ربي يأمرني بالصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل قبلي، فقد أمرني بالصبر على مكروه الدنيا وبالصبر عن محبوبها، ولذلك فلا حاجة لي في دنيا ولا نعيمها ولا رفاهيتها ولا يليق ذلك بي ولا بآل بيتي) هكذا كان يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حصل له بعض الضيق والتبرم من صنع قومه معه، فكأنه أراد أن يعجّل لهم العذاب، وهو بذلك يكاد أن ينفد صبره، فوجهه ربه ودله على الطريق الأنسب والأقوم له وأن العاقبة له فلا يستعجل، قال تعالى: ﴿وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ [الأحقاف: ٣٥] أي: لا تستعجل لقومك عذاباً، فلعلهم يعيشون أياماً أو أشهراً أو سنوات يتوب منهم من يتوب ويصبحون لك عوناً ولدينك أنصاراً، ولعلهم يعيشون أياماً وأعواماً يخرج الله من أصلابهم مؤمنين به داعين لرسالته أنصاراً لك.
قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥] هؤلاء القوم كأنهم يوم ينزل بهم ما أوعدوه من عذاب مقيم ومن محنة حالّة يستقصرون الزمن وكأنهم لم يعيشوا في دنياهم كلها إلا ساعة من نهار، وقت بسيط من الزمن كمن يجتمع بآخر للتعارف: من أنت؟ فلان بن فلان وأنا فلان بن فلان! وانتهى الجمع والزمن.
فقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ [الأحقاف: ٣٥] تشبيه ليس واقعاً ولكن هذا ندركه في دنيانا قبل أخرانا، فالمنتظر يقول: الانتظار شديد وصعب، والمنتظر لشيء مهما كان هذا الشيء تجده يستعجل الزمن، وتمر الأيام والأسابيع والشهور وكأنها ثوانٍ، والله شبّه الدنيا كلها بالنسبة لهؤلاء المعذّبين بقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥]، وماذا عسى أن تكون هذه الساعة؟ ﴿بَلاغٌ﴾ [الأحقاف: ٣٥] أي: كأنهم لبثوا وأقاموا مقدار ما يبلِّغ الإنسان كلاماً لآخر كُلّف بتبليغه، والأكثر على أن ﴿بَلاغٌ﴾ [الأحقاف: ٣٥] خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا القرآن بلاغ، جاء لتبليغ الناس بالإيمان بربهم وصلاح حياتهم وسيرتهم مع نظامهم في دنياهم ونظامهم عند آخرتهم، نظاماً أسروياً وشعبياً، ونظاماً يعيشون به مع العدو ومع الصديق، هذا القرآن جاء بلاغاً ومبلِّغاً لكل ذلك، فيه خبر من قبلكم ونبأ من بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل، ما تركه من جبار إلا قصمه الله، هو الذي لا يبلى قديمه، وكأنك عندما تتلوه وتقرؤه تقرؤه لأول مرة لقوة المعاني التي تخطر ببالك وأنت تتلو، شريطة أن تتلوه وأنت متدبر ومنصت، وأنت تعيش في معاني ما تتلوه وتقرؤه.
قال تعالى: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: ٣٥] قالوا: هذه أرجى آية في كتاب الله يرجوها إنسان، وهي كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لا يهلك على الله إلا هالك).
فقوله: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ﴾ [الأحقاف: ٣٥] استفهام تقريري يقرر الله لنا شيئاً: لا يهلك على الله إلا الكافر والذي خرج عن الإسلام ألبتة وأشرك بالله وكفر به، ومن عدا ذلك يرجو وينتظر ويأمل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨] فلا يهلك ولا يقضى عليه إلا الذي جاء الآخرة وهو لا يؤمن بالله ألبتة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وإلا فالصغائر يمحوها الله ما بين الأوقات مع الوضوء والغسل، ولكن المرتكب للكبائر هو الذي يحتاج للمغفرة ويحتاج للشفاعة، وقد وعدها رسول الله ﷺ أمته من أهل الكبائر، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣] اللهم أطمعنا في رحمتك وشوقنا إليك ولا تجعلنا من الآيسين: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧] فالمؤمن في خير على أي حال، فمن مات وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله أو يوقن بها جنانه فهو في الجنة لا محالة، إما أن يغفر الله له فيدخل الجنة بلا عذاب، وإما أن يدخل النار فيبقى فيها ما عسى أن يبقى، ثم بعد ذلك لا يخلد فيها فيخرج إلى الجنة ويعامل معاملة إخوانه من المؤمنين.
وبهذا نكون قد ختمنا سورة الأحقاف ولله الحمد والشكر والمنة.