تفسير قوله تعالى: (قل للمخلفون من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد)
قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: ١٦].
قال الله لهؤلاء المخلفين: ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الفتح: ١٦] أي: إلى قتال أقوام ذوي قوة وشدة، وحرب وبأس شديد، وسلاح كثير، فقاتلوهم ولا ترفعوا السيف عنهم حتى يسلموا، ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ [الفتح: ١٦] أي: إن استجبتم لقتال هؤلاء القوم الأشداء ذوي البأس الشديد، وأطعتم أمر الرسول ﷺ فتحضروا هذه المعركة فإن الله سيثيبكم الأجر الحسن، ويغفر لكم ما مضى إن كنتم قد أخلصتم الإيمان والإسلام.
﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ [الفتح: ١٦] أي: إن تعصوا وتعرضوا كما أعرضتم وتوليتم وعصيتم من قبل؛ فامتنعتم من حضور معاهدة وصلح الحديبية، ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: ١٦].
والذين سيدعى الأعراب إلى حربهم وقتالهم وهم ذوو بأس شديد، وقوة ومنعة في الحرب والقتال: اختلف الناس فيهم، فقال قوم: هم هوازن، وهم الذين حوربوا في السنة الثامنة من الهجرة بعد صلح الحديبية بسنتين، وهم أهل الطائف الذين حوربوا في غزوة حنين، وقال قوم: هم غطفان، وقال قوم: هم قوم سيأتون بعد ذلك لا يعلمونهم، وقال قوم: هم أهل فارس والروم، كما تقول اليوم: هم أمريكا وروسيا، فهؤلاء ما كان يخطر ببال العرب أنهم يستطيعون حربهم وقتالهم، والقدرة عليهم، والإتيان بمثل سلاحهم وبمثل جيوشهم وبمثل أنصارهم.
فقد كان العرب أيام فارس والروم فئة متخلفة، وكانوا أعز من أن يحاربوا أو يقارعوا مثل دولتي الروم وفارس في ذلك الزمان، فقد كانتا أعظم دولتين وأقوى دولتين وأوسع دولتين، ولذلك فإن الآية تشير إليهما بلا شك.
﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦] فستقاتلونهم حتى يسلموا ويقولوا: لا إله إلا الله أو يستسلموا لسلطانكم ولقوتكم ولجيوشكم، وهذا هو الذي كان بعد ذلك، فقد قاتل النبي ﷺ الروم في غزوة تبوك، وأرسل في غزوة مؤتة من يحارب الروم ويقاتلهم، وأمر عليهم ثلاثة من القادة: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة ابتداء بـ زيد، فإذا قتل فـ جعفر، فإذا قتل فـ ابن رواحة، فاستشهد الثلاثة، وتولى القيادة خالد وأخبرهم النبي ﷺ بذلك قال: ولي القيادة خالد سيف من سيوف الله.
وفي غزوة تبوك خرج النبي ﷺ بنفسه، ولكن الروم استهتروا بالجيش العربي المسلم وما ظنوا أنهم سيجرءون على حربهم وقتالهم فضلاً عن ابتدائهم بالحرب وهجومهم إلى حدودهم، فلم يحضروا بل كانت مناوشات لا تكاد تذكر.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ [الفتح: ١٦] أي: إن أنتم دعيتم وأطعتم أمر نبيكم وأمر قادتكم فالله يؤتيكم الأجر الحسن في الدنيا من الغنائم، وفي الآخرة من المغفرة ودخول الجنان.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: ١٦] أي: إن أعرضتم وعصيتم وخالفتم كما سبق أن خالفتم من قبل فلم تستجيبوا لحضور صلح الحديبية، فإن الله يعذبكم العذاب الأليم المهين.
وبعد أن انتهى أبو بكر من حرب المرتدين وحرب مانعي الزكاة، أمر بخروج الجيوش لحرب هرقل ملك الروم، وتوفي رضي الله عنه وجيوشه على أبواب دمشق.
فجاء عمر الأسد الضرغام وإذا به يفيض على هؤلاء وينساب عليهم انسياب البحار وهيجانها، فيقاتل الروم والفرس والأقباط والبربر وينتصر عليهم، فتدخل الشام والعراق في الدولة الإسلامية وفي المجتمع المسلم، وينتزعونهما من الفرس والروم، وحاربوا فارس حتى أصبحت ولاية من ولايات المسلمين.
وقد ذكر النبي ﷺ هذا قبل ذلك فقال: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده)، ثم أفاض إلى مصر وقضى على الأقباط وضم مصر للإسلام، ودخل البربر -وهي بلاد المغرب- وأخضعهم للإسلام، وتمت في ذلك النذارة الإلهية: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦]، فقاتل من قاتل، وتخلف من تخلف، وعذب من عذب، وتم نصر الله المبين.
وكانت معاهدة الحديبية هي بداية النصر حيث بشر الله نبيه وقال له: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ [الفتح: ١ - ٣]، والانتصار على فارس والروم يعتبر النصر العام الشامل الكامل، وأما بداية النصر فكانت في غزوة بدر التي كانت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، كما كان فتح مكة في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، كما كان استشهاد علي رضي الله عنه في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، فرمضان كله ذكريات طيبة للمؤمن، وفيه نزل القرآن، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [القدر: ٤].
فرمضان منذ اليوم الأول إلى آخر يوم فيه وهو شهر خير وبركة، وعز ونصر، وعبادة ومغفرة، وتقييد للشياطين بالسلاسل والأغلال، وهزيمة لأعداء الله من المنافقين والكفرة، ولو أن المسلمين جيشوا جيوشهم وقاتلوا اليهود وأنصارهم والمستسلمين لهم في شهر رمضان لنصرهم الله نصراً عزيزاً مؤزراً.
وما اختار رسول الله ﷺ قتالاً لمشركي مكة في شهر رمضان إلا التماساً لبركة رمضان وخير رمضان وعز رمضان وفتح رمضان.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: ١٦]، فهؤلاء الذين دعوا لقتال فارس والروم لو أعرضوا كما أعرضوا عندما دعوا لصلح الحديبية لعذبهم الله العذاب الأليم الموجع المهين.