تفسير قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة)
قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: ١٨].
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (كل من حضر بيعة الرضوان مغفور له)، ثم قال لهم: (أنتم خير من على وجه الأرض)، هذا ما قاله الله جل جلاله وحياً لرسوله صلى الله عليه وسلم، وصرح به في هذه السورة الكريمة فقال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: ١٨]، ولذلك سميت هذه البيعة بيعة الرضوان، أي: بيعة رضا الله ورضا رسول الله، وبيعة المغفرة والرحمة وسكنى الجنة، وقصة الشجرة والبيعة ذكرناها في سبب نزول السورة: وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتبادل الرسل والسفراء مع أهل مكة، فأرسل عثمان بن عفان ليبلغ قريشاً أن النبي ﷺ والمؤمنين لم يأتوا لقتال، ولا لحرب، ولا لانتهاك حرمة، وإنما جاءوا معتمرين محرمين، فلم يحملوا معهم إلا السيوف في قرابها وغمدها.
والذي يريد الحرب لا يقتصر على ذلك، إنما يأتي بالخيل وبالدروع وبالنبال وبالحراب وبالسهام، وبأنواع أسلحة الحرب والقتال آنذاك، ولكن النبي ﷺ وأصحابه لم يحملوا إلا السيوف؛ احتياطاً للطوارئ، والسيوف موضوعة في أغمادها وليست مسلولة.
فقالوا لـ عثمان: طف أنت، قال: لن أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل إلى النبي ﷺ غامزاً في عثمان أنه طاف بالبيت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أقام دهراً لم يطف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هكذا كان عثمان، يرفض الطواف ما لم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حبسوه وشاع أن عثمان قتل.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام ينادي مناديه: أيها القوم! من المهاجرين والأنصار والأعراب ومن تبعنا لهذه العمرة، إن رسول الله ﷺ تحت الشجرة في أرض الحديبية، فتحلقوا حوله، فأتوا إليه وهو مستظل بظلال تلك الشجرة، فقال: بايعوني، فبايعوه على الموت، وهو عدم الفرار، ومعنى بايعوه: أي: باعوا أنفسهم طاعة لله، ثم طاعة لقتال أهل مكة إن كانوا قد قتلوا عثمان حقاً، فلن يغادروا المنطقة ما لم يؤدبوهم ويقاتلوهم ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ: ٢٦]، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام وكأنه كان مطمئن النفس أنهم لم يقتلوه، فكل تقدم إلى رسول الله ﷺ ووضع يده في يده المبايعين له بذلك، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يضع يمناه في يسراه والعكس؛ نيابة عن عثمان، وقال: (هذه بيعة عثمان)، فكانت يد رسول الله ﷺ نائبة عن يد الله، والأخرى نائبة عن يد عثمان.
ومن بايع النبي ﷺ نيابة عن عثمان وحضرها فله أجرها وثوابها ومغفرتها، وفضل المبايعين فيها، فبايع جميع الصحابة إلا الجد بن قيس، فقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (كلكم مغفور له إلا صحاب الجمل الأحمر)، فأخذ الأصحاب يبحثون عن صحاب الجمل الأحمر وإذا بهم يجدون أعرابياً يمسك بيده جملاً أحمر، فقالوا له: ويلك يا أعرابي تقدم بايع رسول الله ﷺ فقال: ما بي في البيعة من حاجة؟ إنما افتقدت بعيري وراحلتي فجئت أبحث عنها ووجدتها هنا.
فتبين أنه لم يكن مسلماً، ولم يحضر ضمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء مفتقداً لراحلته الضائعة ووجدها ضمن رواحل الأصحاب، ولذلك استثنى من المغفرة ﷺ صاحب الجمل الأحمر.
وهذه الشجرة قال قوم: إن عمر قطعها، وقال أقوام -وهو الصحيح-: فقدت ولم تعرف؛ فربما جاءها أعرابي يريد حطباً وخشباً فاحتطبها وأزالها أو حصل لها ما حصل.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: ١٨] أي: رضي الله عن بيعتهم، وهو أيضاً ما قاله ربنا: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ [التوبة: ١١١].
فهذه البيعة التي أعاد الله ذكرها في سورة الفتح هي البيعة التي بايعها الأصحاب أهل صلح الحديبية المهاجرون والأنصار الذين حضروا لعمرة الحديبية، يقول الله عنهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: ١٨] أي: رضي عنهم ورضي فعلهم وقبل بيعتهم، وقال أكثر من هذا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠]، فاعتبر الله جل جلاله يد النبي التي كانت فوق أيديهم بيعة للقتال، وموتاً في سبيل الله، وعدم الفرار من المعركة، اعتبرها نائبة عنه جل جلاله وعز مقامه، فبيعة رسول الله هي بيعة لله.
وهذا كقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، والرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء لنفسه ولا لأمرها ولا لعبادتها حاشا لله، وإنما جاء رسولاً آمراً وناهياً عن الله، ولذلك فإن أبا بكر عندما حضر الوفاة النبوية وجد رسول الله ﷺ مسجىً في غرفة زوجته عائشة، فقبل جبينه الطاهر وقال له: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! ثم صعد المنبر فوجد في درجته الأولى عمر قائماً شاهراً سيفه ويقول: من قال: إن محمداً قد مات قتلته بسيفي هذا، فجاء أبو بكر وأقعده وصعد إلى أعلى درجة في المنبر، وقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤].
فالله أرسل محمداً نائباً عنه ومفوضاً في أرضه، يدعو الناس لتوحيده ولعبادته، وللتخلق بمحاسن الأخلاق، ويدعوهم للبعد عن الشرك والرياء والسمعة في العبادة.
ولذلك كانت بيعته بيعة لله، وطاعته طاعة لله، وامتثال أمره امتثالاً لأمر الله، واجتناب نهيه اجتناباً لنهي الله وهكذا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠].
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: ١٨] هذه الشجرة سجلت وخلدت في كتاب الله، فشرفت وأصبح ذكرها قرآناً يتلى، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بايع أصحابه تحتها، فسجلت قصتها وخلدت.