تفسير قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)
قال الله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: ٢٦].
فقوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح: ٢٦] أي: وقت أن حمي الكفار وجعلوا في قلوبهم الحمية والنصرة والأنفة، وكانت هذه الحمية والأنفة وهذا السكر والتعالي وهذا العمل الجاهلي عندما جاء كاتبهم وسفيرهم في الصلح، فمنع رسول الله ﷺ أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: لا أعلم ما الرحمن ولا الرحيم؛ ليظهر ما كان يكتب سلفه وقومه: باسمك اللهم، فأمر النبي ﷺ علياً -وكان كاتب العهد- أن يكتب: باسمك اللهم.
ثم قال: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، فأخذته الأنفة وقال: لا نقر أنك رسول الله، ولو علمنا أنك رسول الله لما قاتلناك.
فحمية الجاهلية: الأنفة والاستعلاء بالباطل وبالكفر، فمنعوهم عن دخول البيت زاعمين بأن ذلك سيذلهم عند العرب، الذين يعتبرون أن قريشاً قد ذلت فخضعت لعدوها محمد وللمؤمنين، فكانت تلك الحمية الجاهلية كما سماها الله.
والله لم يجعل المؤمنين تأخذهم الحمية أو العصبية فيما يتعلق بشأنهم؛ لأن الحكمة ستضيع بذلك، فقال ربنا: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٦] أي: أنزل الطمأنينة على قلب عبده وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل هذه الطمأنينة وهذا الوقار على قلوب المؤمنين فلم يبادروا أهل مكة حمية بحمية، ولا عصبية بعصبية، ولا أنفة بأنفة، فالنبي عليه الصلاة والسلام ترك ذلك لله.
فشعار المسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم أو عبارة باسمك اللهم يدعوان للإيمان، فكلاهما نداء لله وتبركاً باسمه.
وأما نفيهم أنه رسول الله فلن يضير ذلك رسول الله في شيء، فهو رسول الله حقاً شهد الله له بذلك وملائكته والمؤمنون، وهم أنفسهم سيشهدون بعد ذلك وسيخضعون للإسلام وكلمته.
ولذلك فإن الله أنزل طمأنينته ووقاره على قلوب المؤمنين، فلم تكن لهم حمية، ولو كان هناك حمية واصطدام وتقاتل لذهبت الغاية من الصلح.
وقوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح: ٢٦] أي: أوجب عليهم كلمة التقوى، فقد وفقهم لالتزامها حضراً وسفراً، سلاماً وحرباً، رضاً وغضباً، وكلمة التقوى هي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فما قالها إنسان إلا ووقي العذاب، ووقي النار، ووقي اللعنة والغضب، وجعل بينه وبين عذاب الله وغضبه وجحيمه سداً يحفظه من اللعنة ومن العذاب، فلما كان رسول الله والمؤمنون معه قد أنزل الله سكينته على قلوبهم فاطمأنت وزال قلقها واضطرابها، والتزموا كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يبادلوا كفار مكة حمية بحمية، ولا أنفة بأنفة، ولا عصبية بعصبية.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ [الفتح: ٢٦] أي: كان رسول الله والمؤمنون أحق بكلمة التقوى، وأجدر بها من كفار مكة الذين قاتلوها ورفضوها، وامتنعوا أن يقروا لقب رسول الله في المعاهدة، وأبوا أن يفتتح الصلح بالشعار الإسلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن رسول الله والمؤمنين بما التزموا به من كلمة التقوى: لا إله إلا الله، وبما طمأنهم ربهم به من سكينة ووقار: لم يحموا ولم يتعصبوا.
وأهلها هم الملتزمون بها، القائمون عليها، الداعون إليها، فهم أهل: لا إله إلا الله، وكل من قالها هو من أهلها، أدامنا الله عليها، وأحيانا عليها، وأماتنا عليها، وحشرنا مع سيد المرسلين تحت لوائه.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: ٢٦] أي: وكان الله عليماً بكل شيء، عليماً بحال الكافرين ظواهرهم وبواطنهم، وبحال المؤمنين ظواهرهم وبواطنهم، فسيجزي الكافرين على كفرهم، والمؤمنين على إيمانهم.


الصفحة التالية
Icon