تفسير قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ٢٩].
قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح: ٢٩] فإذا أنكر أولئك أن محمداً رسول الله فالله يشهد بأن محمداً رسوله، آمن أولئك أو كفروا، فلن يزيد إيمانهم في الدنيا شيئاً، ولن ينقص كفرهم من الدنيا شيئاً، (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩]، والذين معه هم أصحابه من المهاجرين والأنصار وبقية المؤمنين.
قال: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ فهم على الكفار غلاظ شداد، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين لا العكس كما يفعل منافقو العصر، فتجده مع الكفار في غاية ما يكون من الذل والهوان والحقارة، وتجده مع المسلمين على غاية ما يكون من التعاظم والتجبر والطغيان، وهذه صفة الكافرين.
قال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (محمد رسول الله) مبتدأ وخبر.
(وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) مبتدأ وخبر، يصف أصحابه بأنهم على الكفار أشداء غلاظ.
(رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) خبر ثان، فهم مع بعضهم يرحم بعضهم بعضاً، فكأن الكبير والد وكأن الصغير ولد، فيرحمون بعضهم لساناً ومواساة وعطفاً، ويحسن بعضهم لبعض.
قال: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ [الفتح: ٢٩] يصف أصحاب رسول الله بأنهم كثيرو الركوع، كثيرو السجود، أي: كثيرو الصلاة، فيصلون الفرائض، ويصلون النوافل حتى يكثر ركوعهم وسجودهم، ويصفهم بملازمة العبادة وبكثرة التهجد، ومن كان كذلك كان أقرب إلى ربنا، وفي الحديث القدسي: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) إلى آخر الحديث.
قال: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) فركع: جمع راكع وهي صيغة مبالغة، وسجد: جمع ساجد، ويقال أيضاً: سجاد وركاع، أي: كثير الركوع والسجود، أي: كثير الصلاة من فرائض ونوافل، ليلاً ونهاراً.
قال: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح: ٢٩] وهم في صلاتهم، وهم في عبادتهم، وهم في تهجدهم يبتغون ويريدون فضلاً من الله، والفضل: الجنة والإفضال والإكرام، يريدون من الله ويبغون أن يرحمهم بالجنة، وأن يكرمهم بالرضا، وأن يتفضل عليهم بالجنان، ويبتغون ما هو أعظم، وأعظم من الفضل والجنة رضا الله تعالى، ولا يرضى الله على عبد يوم القيامة حتى يتجلى له، ويراه عياناً كما نرى القمر في السماء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (قيل: يا رسول الله! نحن أعداد متوافرة والله واحد فكيف نرى ربنا؟ قال: كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)، وهذا من تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي.
قال تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾ [الفتح: ٢٩] علامتهم في وجوههم من أثر السجود، وهذه العلامة هي إشراق على الوجه، نور على الوجه، بريق على الوجه، له جاذبية بحيث أن من رآه أحبه، ومن رآه انجذب إليه من نور الإسلام وبهاء الإسلام وكثرة العبادة، وكثرة التهجد، ذلك كله يتجلى على وجهه، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها)، ورداء هذا يكون نوراً ويكون إشراقاً، ويكون حسناً، ويكون جمالاً، قال البعض: هي تلك التي تكون في الجبهة من أثر السجود على التراب والحجر، ولكن قال السلف: قد تجد تلك العلامة في بعض الناس وهم أشد قسوة على المؤمنين من الكافرين، ولكن العلامة هي نور وإشراق وحسن يتجلى على وجوه هؤلاء العابدين المؤمنين، ونرى هذا في عابديه من المؤمنين المتهجدين الزاهدين.
قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: ٢٩] ذلك نعتهم في التوراة؛ فقد ورد في التوراة ذكر رسول الله، وصفة أصحابه، قال الله: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: ٢٩] أي: هذا الذي ذكر هو وصفهم ونعتهم في التوراة.
قال تعالى: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] كزرع زرعته فأخرج شطأه، والشطء: هي تلك الفروع التي تصدر عن ذلك العرق الأول، فتجده قد انضم إليه ونبتت معه الكثير من الفروع والكثير من الجذور، فتزرع نخلة وإذا بها تصبح عشر نخلات.
قال (وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ) أي: نعتهم وصفتهم في الإنجيل المنزل على عيسى، (وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أعطى ثمره، وخرج معه ولدانه، وخرج معه فتيانه وأفراخه، وخرجت معه تلك الفروع التي أصبحت الشجرة بها أشجاراً.
قال تعالى: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] أي: آزر الشطء الزرع فقواه وسانده ونبت معه وكاثره.
قال: ﴿فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ [الفتح: ٢٩] (استغلظ) أي: كبر الفرع، وكبرت معه الفروع والأفراخ، وأصبحت الشجرة أشجاراً، والفرع فروعاً.
(فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) تم وكمل وأعطى الثمرة، وسوقه: جمع ساق، أي: استوى على ساق الشجرة التي نبت عليها وعلا بها، فأصبحت متكاثرة متآزة ناضجة تؤتي ثمرها بإذن ربها في كل حين.
قال: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ [الفتح: ٢٩] يعجب الزارع أي: من زرعه، فيسر ويفرح بذلك، وأن إنتاجه لم يضع، وأن ما زرعه قد أثمر.
قال: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: ٢٩] ولم يقل: ليغيظ بها الكفار، أي: بالزرع والشطآن، بل استرجع الضمير للمعنى، أي: هؤلاء المؤمنون في بدايتهم ونهايتهم كالشجرة الواحدة، فقد كان محمد ﷺ هو المؤمن الوحيد، ولمدة ست سنوات في مكة ولم يؤمن معه أكثر من أربعين رجلاً، فقد ابتدأ الإيمان بـ خديجة ثم بـ علي وأبي بكر ثم تتابع الناس، وكان المؤمن واحداً فأصبحوا اثنين، فأصبحوا ثلاثة، فأصبحوا عشرة، فأصبحوا ألفاً، واجتمع في صلح الحديبية ألف وأربعمائة مؤمن، وإذا بهم يأتون بعد عامين في فتح مكة في عشرة آلاف مقاتل دون ما تركوه في المدينة، ودون ما تركوه في الجزيرة، وهكذا كان هذا الزرع واحداً فتكاثر، فاجتمعت الشطآن فغاظ الكفار نباته.


الصفحة التالية
Icon