تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)
قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٠].
يقول الله لنبيه: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ﴾ [محمد: ٣٠] أي: لو أردنا لو صدرت مشيئتنا وإرادتنا ﴿لَأَرَيْنَاكَهُمْ﴾ [محمد: ٣٠] أي: لعرفناك بهم واحداً واحداً، ولكشفنا لك عن سرائرهم ودخائلهم.
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [محمد: ٣٠] يقول الله لنبيه: لو نشاء لكشفنا لك عن هؤلاء المنافقين، ولعرفتهم بسيماهم وبعلامتهم وبفلتات لسانهم في تقاسيم وجوههم، وبنظرات كلامهم.
﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: ٣٠] يقول الله لنبيه ويلفت نظره: (ولتعرفنهم) يؤكد عليه بلام الابتداء والنون المؤكدة الثقيلة فستعرفهم ﴿فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: ٣٠] اللحن يكون بمعنى: الميل عن الصواب، ومجانبة الصواب، واللحن يكون بمعنى: التعريض، ففي الحديث الصحيح: (لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أحد) أي: يكون أبين وأفصح وأعرف إبانة للدليل والبرهان من غيره.
واللحن: الكلام بالتعريض والكلام بالإشارة والرمز، وهو يعتبر في لغة العرب من رفيع الأدب وبديع رموزه، ويعتبر في لغة المنافقين من النفاق الواضح النفاق البائن النفاق المرسوم الذي لا يكاد يخفى على أحد.
يقول الله لنبيه: لو نشاء لعرفناكهم وستعرفهم بسيماهم، وستعرفهم في لحن القول، عند ذاك كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتبه لكلام هؤلاء، وأنه كله معاريض، يقولون شيئاً ويقصدون غيره، ويقولون غيره ويقصدونه بالذات، كالكلام بالإشارة وبالرمز.
قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٠] أي: يعلم عمل كل واحد منا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وإن صدقاً فصدق، وإن نفاقاً فنفاق، لا تخفى عليه جل جلاله خافية.
قوله: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [محمد: ٣٠]، الله علق مشيئته على (لو) لم يعد وعداً مطلقاً بأننا سنعرفك إياهم، قال بعض المفسرين: كان ذلك من الله ستراً لهؤلاء المنافقين أو لبعضهم؛ عسى أن يتوبوا ويئوبوا، حيث إن الله لم يعرفه بهم جميعاً كما عرفه ببعضهم، ولكنه أشار إليه بسيماهم ولحن قولهم.
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ﴾ [محمد: ٣٠] أي: رأي العين فقلنا: هم فلان فلان فلان ابن فلان! عشيرة فلان.
﴿فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [محمد: ٣٠] أي: في تقاطيع وجوههم بألوانهم وطولهم وأشخاصهم حتى كأنهم معك، وذلك مثلما شخص له الجنة والنار في قبلته وهو يصلي حتى رآهما، ولكن الله قال له بعد ذلك: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: ٣٠] فأشار إليه بأنه سيعرفهم في معارض كلامهم، وفي إشارات حركاتهم، وفي نظرات قولهم، وفي مقاطع وجوههم، أعطاه علامة فيه ليعرفها وليعرفهم بها.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٠]، يعرف عمل المخلص من عمل المنافق، يعلم عمل الخائن من عمل الصابر، ويعلم كل شيء جل جلاله.
يقول عقبة بن عامر كما في مسند أحمد: (خطبنا رسول الله ﷺ يوماً وإذا به يذكر المنافقين فقال: فيكم منافقون فسأعرفكم بهم، وأخذ يقول وهو على المنبر يوم الجمعة: قم فلان! قم فلان!)، إلى أن أقام ستة وثلاثين رجلاً وطردهم من المسجد، وأعلن نفاقهم، ومع ذلك عاد فقال للحاضرين: (وفيكم منافقون) كشف من المنافقين ستة وثلاثين واحداً، وسكت عن منافقين أخر إما ستراً من الله لهم أو ستراً من النبي عليه الصلاة والسلام رجاء أن يتوبوا عن نفاقهم، ويعودوا للإخلاص والإيمان الحق.
قال: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ﴾ [محمد: ٣٠]، ولم يقل: شئنا أن نكشفهم لكم، لأن هؤلاء ما يزالون مستمسكين بلا إله إلا الله، ولم يظهر ذلك ظهوراً بيناً، وبقي في القلوب.
وهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه قتل رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلت رجلاً قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها فراراً من السيف، قال: هل شققت عن قلبه)، القلوب متروكة لله، وهو أعلم ببواطنها، فنحن أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر ما لم يكشف الإنسان عن نفسه.
ولي عمر بن الخطاب الخلافة بعد أبي بكر، فكانت خطبة الخلافة أن قال: أيها الناس! الوحي انقطع، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله، ولا يعلم الغيب إلا الله، من أظهر لنا خيراً عاملناه به، ومن أظهر لنا غير ذلك عاملناه بما أظهر، ونكل بواطنهم وقلوبهم لخالقهم.
لو جاءني إنسان قال: فلان كافر! فناديته أصحيح أنت كافر؟ قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يثبت عليه شيء يدعو إلى ردته، فقد يأتيك من يقول: رأيته يقول: كلمة كفر أو رأيته يصنع صنيع كفر، فما دام الأمر لا يزال قاصراً عليه فيترك لله، ولكن هؤلاء الستة والثلاثون الذين كشفهم رسول الله ﷺ وطردهم من المسجد كانوا أظهر نفاقاً من غيرهم، وأكثر أذى من غيرهم، وكانوا سماً مدسوساً بين أوساط المسلمين، يتجسسون في مجالس رسول الله عن رسول الله والمؤمنين ويذهبون في ذلك للمنافقين.
فكشفهم النبي ﷺ لكي لا يؤذى بهم أحد بعد؛ ولكي لا يغتر بهم أحد بعد، والمنافقون الأخر لم يكونوا كذلك، كانوا في أنفسهم مترددين متشككين غير مطمئنين، وإلا فبعد وفاة رسول الله فما حمل عشرات الآلاف من الخلق على الردة إلا أن بعضهم كانوا منافقين، وكان بعضهم ضعاف إيمان مترددين، فعندما توفي النبي عليه الصلاة والسلام ظنوا أن الإسلام قد انتهى لن يعود، وسيصبح الأمر لفارس والروم.
ولكن الله تعالى قد سبق في كتابه المحفوظ وعلمه الأزلي السابق أن ينشر الإسلام مشارق ومغارب، وأن يذل عدوه وينصر دينه، وأن يكون اسم محمد مقترناً باسمه جل وعلا، وصلى الله على نبينا في مختلف بقاع الأرض وقاراتها، فلا تقال: لا إله إلا الله، إلا ويقال بجانبها: محمد رسول الله، ولا يتم إيمان مؤمن إلا بذلك، وهكذا وإلى اليوم تذهب إلى بلاد الكفار فتجد المؤذن يؤذن على المآذن بشهادة الحق: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
هذا المنافق في عصر النبي ﷺ قد علمه الله ما علمه بما لم يعلمه غيره، وقد تنازع الفقهاء في حكم المنافق بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو ما يسمى في الفقه بالزنديق، فما حكم الزنديق؟ أي: ما حكم المنافق؟ فجمهور الأئمة والفقهاء في طليعتهم الإمام مالك يقول: يقتل الزنديق ولو قال: أنا تائب؛ لنفاقه وعدم إخلاصه، ولتلاعبه في القول؛ فإنه يقول صباحاً ما يخلفه مساءً ويقول مساءً ما يخلفه صباحاً، فهو لا يوصف بالإيمان، ولا بتوبة، ولذلك كان من صالح المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية أن يقتل، وأمره بعد ذلك إلى الله.
ولكن النبي ﷺ لم يقتل منافقاً، بل طرد هؤلاء الستة والثلاثين وما قتل منهم واحداً، وكان رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول - أبي أبوه، وسلول أمه- وطالما حرض عمر رسول الله على قتله، والنبي يأبى؛ لأن عبد الله بن أبي لا يكاد يبلغه أن النبي ﷺ بلغه شيء عنه إلا وجاء مسرعاً يكذب ذلك، ويقسم الأيمان الفاجرة على صدقه، وعلى إيمانه وإخلاصه.
ولم يكشف ألبتة إلا بعد موته وهلاكه، حيث صلى عليه رسول الله ﷺ مجاملة لولده عبد الله المؤمن المخلص الصادق، فعندما صلى عليه جاء أمر الله في نهييه عن ذلك مرة ثانية فقال: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٨٤]، حكم عليه بالكفر وكشف أمره، ولو كشف هذا حال حياته لما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.
ولذلك المنافق لا يعاد، ولا يصاهر، ولا يشارك، ولا يزار قبره، ولا يرد عليه سلام، والنفاق قد كثر في الأرض اليوم، فكل من يقول: هو شيوعي أي: هو كاذب منافق تجد اسمه إسلامياً، وتجده متزوجاً مسلمة، فلا يجوز ذلك في حال، لا يزوج، ولا يصاهر، لا تعطه، ولا تأخذ منه، ولا يشارك، ولا يصاحب، ولا يسلم عليه لا بداية ولا جواباً، وإذا كثر النفاق في قوم وجب الجهاد في الداخل قبل الخارج، وماذا يقول الإنسان؟ لقد كثر الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد كثرت الذنوب والآثام، وكثر البعد عن الإسلام مجتمعات وهيئات وأفراداً ونساء ورجالاً وحكومات، ضل من ضل، ونرجو الله تعالى أن يمن على عباده المسلمين بالتوبة والصلاح والإخلاص.


الصفحة التالية
Icon