تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)
قال تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥].
يقول الله للمؤمنين وهم أهل العزة والكرامة والسيادة، وهم سادة الأرض، وهم أنصار الله ورسوله، وهم المؤمنون المتبعون الحق، لقد قال ربنا: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: ٨].
يقول تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا﴾ [محمد: ٣٥] أي: فلا تضعفوا أمام العدو، ولا تذلوا له، ولا تطأطئوا إليه، ولا تهابوه، ولا تبتدئوا بطلب الصلح، بل ولا تطلبوا الصلح في حال كونكم أقوياء.
قوله: ﴿فَلا تَهِنُوا﴾ [محمد: ٣٥] من الوهن وهو الضعف.
((وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) السَلم والسِلم قراءتان سبعيتان متواترتان والمعنى: لا تضعفوا فتدعوا عدوكم وتنادوه إلى الصلح والسلام، ذاك ضعف، وذاك هوان، وذاك ذلة لا يزيد الله فاعلها إلا ذلاً وهواناً، ويكون عاصياً لربه وخارجاً عن أمره.
قوله: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ [محمد: ٣٥] أي: أنتم الأعلى والأشرف؛ لأنكم المؤمنون الموحدون؛ لأنكم أصحاب الأرض وليس لغيركم ما أخذه إلا بحسب العارية، ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [الحشر: ٦] ما أعاد وأرجع، فما في يد الأعداء هو للمؤمنين أصلاً، ويجب أن يعود للمؤمنين وليس للكافرين في ذلك حق، فإن أخذه فبسيف القوة، بل ولتذلل المسلمين وضعفهم، وعدم جهادهم للعدو وقتالهم واسترجاع ما أخذ منهم.
قوله: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥] ومن كان الله معه كان معه النصر، وكان معه التأييد، وكان معه أهل السماء والأرض، ولا يضر المؤمن بعد ذلك أن يكون الشيطان وحزب الشيطان ضده.
كانت جماعة من الصحابة ينتضلون، أي: يتعلمون الرمي والجري والسباق على الخيل، فيمر بهم رسول الله ﷺ فقال لطائفة: (ارموا بني إسماعيل وأنا معكم؛ فكف الآخرون أيديهم وقالوا: يا رسول الله! إن كنت معهم فهم الحزب الأقوى، فعاد فقال: ارموا أنا معكم جميعاً) عند ذلك تسابقوا وعادوا وقد تعلموا الرمي والمسايفة وما إلى ذلك، فمن كان الله معه غلب كل شيء، ومن كان الله عليه غلبه كل شيء، والمؤمن الله معه.
قوله: ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥] أي: لن ينقصكم أعمالكم، فمن عمل خيراً زاده على كل حسنة عشر حسنات إلى أضعاف كثيرة إلى سبعمائة ضعف إلى ما يريد الله جل جلاله، ومن كرمه أنه لا يجازي على السيئات إن لم يغفرها إلا بسيئة واحدة.
﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥] يقال: وتره إذا نقصه، ومنه الحديث النبوي: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: كأنه فقد الأهل والمال، فمن فاتته العصر بلا سبب حتى غربت الشمس يكون حاله بين الناس كحال من فقد الأهل والمال، وكيف بمن فقد الأهل والمال؟ ولم التأكيد على العصر بالذات؟ لأنها الصلاة الوسطى كما في الصحاح: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم ناراً).
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: ٢٣٨] أمر بالصلوات بصفة عامة، وأمر بالوسطى بصفة خاصة، فكانت العناية فيها أكثر أجراً وثواباً والتفريط فيها أكثر إثماً وعذاباً.
قوله: ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥] أي: لن يفقدكم إياها، ولن ينقصكم منها، هكذا عفو الله، وهكذا كرم الله جل جلاله.