تفسير قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات)
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: ٤ - ٥].
هذه آداب أخر مضافة إلى عدم التقدم بين يدي الله ورسوله، وعدم رفع الأصوات على رسول الله حياً وميتاً.
وهاتان الآيتان كان سبب نزولهما: أن أعراباً من بني تميم جاءوا وهم لا يزالون على دينهم الوثني وقد أسر منهم أسرى، فوصلوا إلى المسجد النبوي والنبي ﷺ قائل، إذ قد جاء في الآثار النبوية: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل).
فجاءوا فسألوا عنه، فعلموا أنه في إحدى حجرات نسائه، فأخذوا يصيحون: يا محمد، يا محمد، إلى أن أيقظوه، فخرج إليهم، فقال له عيينة بن حصن: يا محمد! إن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فقال: (ذاك الله الذي مدحه زين وذمه شين).
قال: جئنا نفاخرك بشعرائنا وخطبائنا، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: لم آت للشعر ولم آت للمفاخرة، ولكن هاتوا ما عندكم، فخطب خطيبهم وتربع في القول، فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى أحد خطبائه - وهو ثابت بن قيس الأنصاري - فخطب، فكان خطيب رسول الله البليغ الفصيح الذي إذا خطب رفع صوته هز الأركان، وكاد يصم الآذان، وفعل ذلك بأمر رسول الله.
ثم عادوا فأتوا بشاعرهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ حسان: أجبهم، فأجابهم حسان رضي الله عنه، فإذا بـ عيينة يقول: والله إن خطيبهم لأخطب من خطيبنا، وإن شاعرهم لأشعر من شاعرنا، وإن هذا الرجل لمأتي.
أي: محظوظ.
وقال قوم: سبب نزول الآية أن قوماً جاءوا وقد سمعوا بأن قرشياً هاشمياً يدعي النبوة، فقال قوم منهم: يطلب ملكاً، وقال آخرون: هو نبي الله ورسول الله.
فتداعوا وقالوا: هيا بنا نذهب إلى هذا الرجل، فإن كان نبياً فسنكون أسعد الناس به، وإن كان ملكاً فلعلنا نعيش تحت جناحه وتحت سلطانه فنستفيد منه، فجاءوا يصيحون: يا محمد يا محمد، فنزل قوله تعالى مؤدباً لهم ومقرعاً لهم ومؤدباً لعموم المسلمين الذين عاصروا النبي ﷺ ومن سيأتي بعد إلى عصرنا بأنه لا ينادى رسول الله ﷺ باسمه، ولا يرفع الصوت عليه في حياته وفي مماته كذلك، فلا يقال: يا محمد، أو: محمد من غير ذكر الرسالة والنبوة والصلاة، كرسول الله، ونبي الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: ٤].
أي: إن هؤلاء البدو الأجلاف الأعراب غير مؤدبين ولا مهذبين، هؤلاء الذين ينادونك برفع أصواتهم وبتسميتك مجرداً عن الرسالة والنبوة من وراء الحجرات ومن وراء حيطان بيتك أكثرهم لا يعقلون، أي: الذين نادوا والذين أقروا هذا النداء، أما القلة التي استنكرت ذلك وكانت مهذبة ولو لم تكن مسلمة فليست كذلك.


الصفحة التالية
Icon