معنى قوله تعالى: (اجتنبوا كثيراً من الظن)
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: ١٢].
هذه السورة قليلة الآيات عظيمة الأحكام والآداب والأخلاق في بلاغة وفصاحة.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢].
دعا الله المؤمنين إلى ترك الظن واجتنابه والابتعاد عنه في كثير منه، ولم يقل: في جميعه؛ لأن بعض الناس في سيرتهم وفي تصرفاتهم يحملون الناس على سوء ظن بهم، فإذا وجدنا رجلاً علمنا دينه وتقواه وصلاحه وبره يوماً يمشي مع امرأة ونحن لا نعلم عنه إلا خيراً؛ فلا نبادر برميه بالسوء فنقول: ما مشى مع هذه المرأة إلا وهي خليلة، فلا داعي لهذا الظن السيئ؟! فمثل هذا نهى الله عنه؛ لأن هذا الذي عرف بالخير لا يجوز بحال من الأحوال أن يرمى بسوء الظن لمجرد أنك رأيته مع امرأة، فقد تكون أمه، وقد تكون زوجته، وقد تكون أخته، وقد تكون ابنته، وإن كان هو ينبغي أن يتحاشى ذلك ويبتعد عنه؛ لأن النبي يقول عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم)، ولكن قد يحتاج الإنسان أحياناً - ولا مفر من ذلك - أن يأخذ بعض حريمه إلى الحج أو عمرة أو لصلة رحم، وليس هناك من يذهب معها من المحارم إلا هو، فكيف يظن به السوء!؟ ولكن إذا علمنا رجلاً قد حد على ذنب، أو علمنا عنه السوء واشتهر به فهذا يكون ظن السوء هو الأولى به.
ومن هنا قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢]، وليس كل الظن إثماً، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من الحزم سوء الظن)، فإذا كنت تريد أن تعامل إنساناً معاملة مالية في شركة تجارية أو زراعية أو شيء وأنت لا تعلم عنه شيئاً فمن الحزم ألا تضيع مالك وتدخل معه في المحاكم والمرافعات لوثوقك من أول مرة بأمانته وخبرته بهذا العمل، ومع هذا لا تذكره بسوء، فلا تقل: أنا أظن كذا وأنت لم تعلم عنه خيراً ولا شراً، فلا تذكره بسوء، كأن تقول: أظن أنه ليس ابن أبيه، أو: أظن أنه لا يؤتمن، فهذا لا يجوز.
وإن استشارك أخوك المسلم في إنسان ليصاهره أو ليشترك وإياه في عمل أو أي شيء وكنت تعلم عنه سوءاً فلا تكتمه، ولا يعتبر ذلك غيبة ولا نقصاً ولا ظن سوء، ولكنَّه يعتبر نصيحة لأخيك المسلم، ويروى أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه مرة أحد أجلاف الأعراب، وقبل أن يدخل عليه قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (أحمق مطاع)، فوصفه بالحمق، فعندما دخل عليه أحسن استقباله، فانتبهت لذلك عائشة التي سمعت الحديث، فقالت: (يا رسول الله! قبل أن يدخل قلت: أحمق مطاع، وعندما جاءك أحسنت استقباله، فقال: نعم)، ومن هنا قالت عائشة: أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.
على أن إكرام الضيف من أخلاق المؤمنين، فكيف برسول الله الإمام والقدوة والأسوة لعموم الناس صلى الله عليه وسلم.
وليست هذه شتيمة وليست بغيبة، ولكنها تعريف بأن هذا الرجل على زعامته بدوي، وقومه بدو أجلاف لا يحسنون الاختيار لمن يتزعمهم، فأرسلوه وافدهم إلى رسول الله ﷺ على ما فيه.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ [الحجرات: ١٢]، أي: ابتعدوا عنه، وكان سفيان الثوري يقول: الظن ظنان: أحدهما إثم، وهو أن تظن وتتكلم به، والآخر ليس بإثم، وهو أن تظن ولا تتكلم.
وإذا رأيت أهل الفسق وأهل الكفر فلا بد من أن تأخذ بالحزم وتظن السوء بما يقومون به من فسق ومن كفر.
أما أن تظن بالصالح سوءاً فذلك ما حرمه الله، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢]، فبعض الظن يرتكب فاعله الإثم، كأن يظن بصالح سوءاً بظنون وأوهام وأمان غايتها الطعن في الصالحين، والناس يبادرون عادة بالطعن في الصالحين وفي الكبار.
فهي ظنون وأوهام دخلت في عقولهم وليس لها في واقع الحال نصيب، وظن السوء بأهل الخير والصلاح يكون فاعله قد ارتكب الإثم بظن السوء واغتاب أخاه المسلم إذا تكلم بذلك، فلذلك ربط الله بين سوء الظن والغيبة.