تفسير قوله تعالى: (قال بل ألقوا فإذا حبالهم)
قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: ٦٦].
فألقى السحرة أولاً كما قال لهم موسى، ألقوا في هذه الصحاري حبالهم وعصيهم وإذا بها أفاعي فيما تظن العين ويتراءى لها.
﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ [طه: ٦٦] أي: إلى موسى، ﴿مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: ٦٦] فكان هناك من الكيد ومن الشعوذة ما صنعوه في الحبال والعصي، فبدت وكأنها تتحرك وترتمي على بعضها، وأنها تزحف يمنة ويسرة حتى كأنها أفاعي حقاً.
فأخذت تتحرك وتسعى وتجري وما كان إلا الزئبق قد لطخت به الحبال ولطخت به العصي، فحمي هذا الزئبق عند حر الشمس ضحى، والزئبق بطبيعته متحرك غير ثابت ولا مستقر، وبكثرة ما صنعوه بدت الحبال والعصي في عين الناظر تتحرك وتمشي وتسرع.
﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: ٦٦]، خيل: أي هي خيالات خادعة، وأوهام كاذبة لا حقيقة لها في نفس الأمر، فلو وضع شخص يده على أفعى منها لما وجدها إلا عصاً أو حبلاً.
والسحر أقل وأحقر من أن يغير ذات الشيء إلى ذات أخرى، ولا يفعل ذلك إلا الله جل جلاله، ولكنها الخزعبلات والألاعيب والخفة في اليد توهم الإنسان، وهو متشكك النفس في أن هؤلاء يريدون مخادعته، ويريدون اللعب على إدراكه وفهمه.
وقد كاد يحصل بعض ذلك لموسى، وهو بشر بعيد عن السحر، فلم يسبق له أن رآه فضلاً عن أن يقوم به، وهو نبي معصوم، يقول الله عنه: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ [طه: ٦٧].
أي: أن موسى أضمر الخوف، وقال: معي عصاً واحدة وهؤلاء أتوا بالآلاف، فما تصنع هذه العصا مع هذه العصي والحبال التي انقلبت حيات وأفاعي؟ وهذا من ضعف البشرية، ولكن الوحي يساند ويؤيد ويقوي.
وقيل: لم يخف موسى في نفسه وهو مؤيد بالوحي، ولكنه خاف على الحاضرين أن يغرهم ذلك فيبعدهم عن الحق وعن الهدى، فيعتبروا هذا نصراً وفوزاً فيفروا عنه ويتركوه وحده، ولا يؤمنوا به.


الصفحة التالية
Icon