تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا)
وإذا بهؤلاء الشهداء وقد أنذرهم وتوعدهم وتهددهم فرعون يتحدونه بكل صلابة وإيمان، فكانوا القدوة والأئمة لكل مظلوم يكره على الكفر وقد بان له الحق وأتته البينات، فيثبت متحدياً الأباطرة والظلمة والجبابرة.
وإذا بهؤلاء السادة الموحدين التائبين العابدين يجيبون فرعون ويقولون: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: ٧٢].
أجابوا فرعون محتقرين له أمام هذه الجموع الحاشدة من أهل البلد.
وقولهم: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ [طه: ٧٢]: أي: لن نختارك، ولن نقدمك، ولن نعبدك بعد اليوم، ولن نرتكب سحراً حتى ولو عشنا.
﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ [طه: ٧٢]: أي: ما كان لنا أن نختارك ونقدمك بعد اليوم، وقد رأينا هذه البينات الفاضحات، والمعجزات الواضحات، وما أتى دليلاً على صدق موسى وهارون من أنهما نبيان رسولان جاءا ليبلغا الحق والهدى عن الله تعالى.
وكانت البينات بالنسبة لهم هذه العصا التي ازدردت كل العصي والحبال التي جاءوا بها، وهم أعلم بالسحر من فرعون؛ فعرفوا أن هذا لم يكن سحراً أبداً، وأنه دلالة أكيدة صادعة من الله الخالق المحيي المميت، وليس ذلك سحراً، وليس ذلك شعوذة.
وكانوا من قبل عندما حضهم موسى قبل الشروع في السحر ودعاهم إلى الله قائلاً: ﴿لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ [طه: ٦١]؛ أخذوا يترددون ويقولون: ليس هذا بقول ساحر، ليس هذا بقول مشعوذ، بل هذا الكلام لا يخرج إلا من في نبي، وخاصة في مثل هذه المواقف.
قال هؤلاء التائبون لفرعون الكاذب: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ [طه: ٧٢]: أي: لن نختارك ولن نقدمك على هذه البينات وعلى الله الذي خلقنا وأنشأنا، والذي أرسل لنا موسى وهارون لنعلم الحق من الباطل ونخرج من الوثنية إلى عبادة الله الواحد، ونترك الأصنام حية كانت أو ميتة، ونترك هذا الباطل الذي تعيشون فيه.
وقد يكون قولهم: ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ [طه: ٧٢] قسماً؛ أي: ونقسم على ذلك بالله الذي أنشأنا على غير مثال سابق، وأوجدنا بلا مواد سابقة، وأوجد المواد التي كوننا منها كالتراب.
أو: لن نؤثرك ولن نختارك على البينات الهاديات والمعجزات الواضحات، وربنا الذي فطرنا وخلقنا، فربنا هو المختار لنا والمعبود وحده بعد اليوم.
قولهم: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه: ٧٢]: أي: اصنع ما أنت صانعه، وافعل ما أنت فاعله، فاقتل واصلب وقطع.
﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: ٧٢]: أي: لن يكون لك ذلك إلا في هذه الحياة غير الدائمة، هذه الحياة التي لم تكن ثم كانت، وهي إلى عدم بعد ذلك ويبقى الله الواحد القهار.
فلن نؤثر الفاني على الدائم، ولن نؤثر الباطل على الحق، ولن نؤثر الإله الكاذب على الإله الحق فاطرنا وخالقنا جل جلاله.
وقولهم: ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: ٧٢]: أي: لن تستطيع أن تفعل شيئاً إلا في هذه الأيام القليلة التي ابتلي بك قومك، وابتلينا نحن كذلك بك ليختبر الله صدقنا بعد أن أرسل لنا نبيين كريمين، وبعد أن بدت لنا العلامات والبينات على صدقه.


الصفحة التالية
Icon