تفسير قوله تعالى: (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات)
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى﴾ [طه: ٧٥]: أي: الذي يأتي ربه مؤمناً أنه الله الواحد لا شريك له، وأنه أرسل عبيداً من عبيده اختارهم أنبياء ورسلاً مبلغين عنه دعوته لعبادته وتوحيده وطاعته فله الدرجات العلى في الجنة.
قوله: ﴿قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ﴾ [طه: ٧٥] أي: لا يكفي أن يؤمن باللسان، ولا بد أن يؤكد ذلك بالأعمال.
وعمل الصالحات من طاعة الله ورسوله حسب ما طلب الله وأمر، ولا اجتهاد في الطاعة.
وقد قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: ١ - ٣] كل خلق الله في الأرض من الجن والإنس خاسرون ضائعون، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: ٣] أي: إلا من آمن بالله رباً.
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر: ٣] تأتي الدرجة الثانية وهي العمل الصالح.
وهكذا لا يذكر الإيمان إلا ويذكر معه العمل الصالح.
والرتبة الثالثة هي ما يفعله الآن هؤلاء التائبون من سحرة فرعون، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣] أخذ يأمر بعضهم بعضاً بالحق، وما الحق إلا الإيمان، وما الحق إلا التوحيد، وما الحق إلا الإلهيات والنبوات، طاعة لله وطاعة لرسوله في كل ما أمرا به.
والمؤمن يقول بعد الرسالة المحمدية: آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد نبياًً، وبالمؤمنين إخوة، وبالكعبة قبلة.
هذا هو الإيمان.
ويأتي العمل الصالح من ترك المنكرات جميعها، وفعل الصالحات حسب القدرة والطاقة؛ (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا).
فالباطل والزيف والمنكر أعمال سلبية لا تحتاج إلا إلى إيقان وقوة إرادة في تركها.
أما الفعل فحسب القدرة، فالقوي يفعل ما لا يستطيعه الضعيف، والضعيف يستطيع أن يفعل ما لا يفعله الأضعف، وكل حسب قدرته وطاقته.
وأما الإيمان فلا هوداة فيه ولا تسامح، ومن آمن ببعض وكفر ببعض فذلك أيضاً كافر، الإيمان كل لا يقبل التجزئة.
ومن يأت ربه مؤمناً قد عمل الصالحات فله الجنة، وما عمل الصالحات إلا القيام بالأركان الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً، وإيتاء الزكاة على من عنده نصابها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولم يجعل علينا في الدين من حرج.
قوله: ﴿لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى﴾ [طه: ٧٥]: العلى: جمع علياء، وهي مؤنث أعلى، والدرجات في الجنة، ويقال عن درجات النار دركات؛ لأنه ينزل إليها نزولاً إلى أسفل السافلين.
وأما الجنة ففي العلو، وما يفعل بالعلو يقال عنه درج، فللجنة مقامات ودرجات.
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: (إن للجنة مائة درجة، ما بين درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، ومن في الدرجة الثانية يتراءون من فوقهم كما تتراءون النجم الدري في أعلى السماء، وإن عمر لمنهم).
فهذه الدرجات العلى أعلاها الفردوس، وبين كل درجة ودرجة مثل ما بين السماء والأرض.
ويبشر ﷺ الخليفتين الراشدين أبا بكر وعمر أنهما من هؤلاء الذي لهم الدرجات العلى، وأنعم بهما ما أكرمهما.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الجنة درجات وأعلاها الفردوس الأعلى وهي للمؤمنين، فقال بعض الحاضرين: تلك منازل الأنبياء يا رسول الله! قال: بلى، هي لمن آمن بالله وعمل صالحاً، وإن أبا بكر وعمر لمنهم، وأكرما وأنعما).
﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى﴾ [طه: ٧٥] أي: أعلى الدرجات في الجنة وليس الدرجة السفلى منها، وليس في الجنان أسفل، إنما درجة أعلى من درجة، ومقام أعلى من مقام، وإلا فكلهم مرضي عنهم مرحومون، يمتعون برضا الله والنعيم الخالد الدائم.