تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)
ثم قال تعالى ممتناً على رسوله ومعلناً لنا بأن ما يقصه الحق: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ [طه: ٩٩].
أي: وكما قصصنا عليك قصة موسى وفرعون ولم تكن تعلمها قبل، وكانت مشوشة عند الناس مبدلة محرفة، كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق.
وقد قص الله علينا قصص خلق آدم، ونوح مع قومه، وصالح مع قومه، وهود مع قومه، ولوط مع قومه، وإبراهيم مع قومه، وقصص جميع أنبياء بني إسرائيل، وهكذا دواليك.
وقص علينا قصص شعوب بائدة، وكان كل ما قصه لم يكن معلوماً عند العرب، فقد كانوا أمة أمية لا يحسبون ولا يكتبون، فمن أين جاءته هذه المعارف؟ أليست هذه معجزة المعجزات الخالدة إلى يوم القيامة؟ إنسان عاش بين قومه أربعين عاماً لا يعلم شيئاً، ففيه ذكاء ونبوغ، ولكنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ على شيخ، وإذا به بعد الأربعين سنة يصبح وقد فاجأ قومه وفاجأ الخلق كلهم مشارق ومغارب بهذه العلوم التي وسعت الأولين والآخرين، بقصص السابقين واللاحقين، بما كانوا عليه وبما يكونون، من أين جاءه كل ذلك؟ وأتى به بكلام معجز على فصاحة العرب وبلاغتهم وما أعطوا من تفنن في القول، وقد عجزوا عن أن يأتوا بآية من مثله، بسورة من مثله، ولا يزال العجز قائماً، والتعجيز قائماً، لا أمة في الماضي، ولا أمة في الحاضر ولا في الآتي، ولا إنسان مهما بلغ من الفصاحة والبلاغة، لن يستطيع الإتيان بسورة من مثل سور القرآن، بل ولا بآية.
فإن حاول أتى بالغث، أتى بالسخيف من القول، أتى بما يتضاحك به وتضحك منه الثكلى، فالله جل جلاله يقول لنبيه ولنعلم نحن ذلك: لو لم يكن محمد نبياً حقاً صلى الله عليه وآله فمن أين أتته هذه العلوم وهذه المعارف؟ على من درسها وكيف درسها وهو لم يعش إلا في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب.
﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ [طه: ٩٩] أي: من أنباء القوم السابقين كما لو عشت معهم.
ومن هنا نعلم متأكدين قاطعين أن قصص القرآن هي قصص واقعية، هي قصص كانت ذات يوم لأشخاص وأعيان وأزمان وأجيال وأوقات، لا كما زعم من ارتد ممن يدعي العلم ويدعي المعرفة منذ مائة عام وهلك مع الهالكين.
قال عن قصص القرآن: هي أشياء متخيلة، ذكرت لضرب الأمثال وأخذ العبرة، ولم يكن لها في التاريخ والواقع وجود.
وضل هذا وأضل غيره، وجاء بعده من قال بذلك وكتب عنه أطروحات وكتباً، وهذا كله ضلال في ضلال، ردة في ردة، خروج عن كتاب الله وخروج عن أمر الله ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقصص كله حق.
ومن هنا عندما ابتدأ الناس البحث عن الآثار في الأرض، هذه الآثار قد لفت الله نظرنا إليها فأمرنا أن نضرب في الأرض ونرى الآثار، وقد وجدنا آثار كل من قص الله قصصهم من قوم فرعون، ومن قوم لوط، ومن قوم إبراهيم، ومن جميع أنبياء بني إسرائيل.
فكان ذلك مكذباً للواقع المحسوس الملموس باليد حتى للكافر، حتى لضائعي العقل، حتى للذي يعيش في الزيف والباطل.
﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ [طه: ٩٩] من أخبارهم.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ﴾ [طه: ٩٩] من هنا للتبعيض، أي: يذكر لنا بعض ما سبق من قصص هؤلاء، هذا القرآن الذي وصفه رسول الله ﷺ بأن فيه خبر من قبلنا، وأن فيه خبر ما بعدنا، وأنه الحكم الفصل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، ورأينا ذلك رأي العين، بل ولا نزال نعيش في واقعه.
قال تعالى: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ [طه: ٩٩] والذكر هنا القرآن، كما أن الذكر محمد عليه الصلاة والسلام، لأن لله عباداً إذا رؤوا ذكر الله، وكان في طليعة هؤلاء العباد نبينا صلى الله عليه وعلى آله، ما رئي إلا وذكر الله، وقيل ليس هذا بوجه كذاب، وقيل: هذا الناطق عن الله، وقيل: هذا المذكر لله وفي الله.
وكثيراً ما جاء أعراب سذج لا يكادون يميزون فرأوا إشراق النبوءة، ورأوا النور النبوي على جبينه فقالوا: والله ما هذا بوجه كذاب، فآمنوا به دون أن يسمعوا معجزة ولا برهاناً ولا دليلاً، كان ذلك بالحدس، كان ذلك باليقين أن مثل هذا لا يكذب.
ومن لا يكذب على البشر مدة أربعين عاماً وقد عاش بين قومه، عرفه الصغير والكبير، وهو ابن زعمائهم وابن قادتهم، ابن عبد الله بن عبد المطلب، أيكذب على الله بعد أن بلغ أربعين عاماً؟ حاشا الله ومعاذ الله.
﴿وقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ [طه: ٩٩] أي: من عندنا، ومعناه: أن الكتاب كتاب الله، والذكر ذكر الله، وما محمد عليه الصلاة والسلام إلا مبلغ عن ربه، قد خلت من قبله الرسل فهو خاتم الرسل.
ومن أسماء القرآن: القرآن والفرقان والذكر، ما قرأه إنسان إلا وتفكر الحق وميز الباطل، وذكر ربه، وذكر بشراه، وذكر عقوبته فتذكر ورجع إلى الله، ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: ٥٥].


الصفحة التالية
Icon