تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور)
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا﴾ [طه: ١٠٢ - ١٠٣].
يكون هذا المجيء وهذه الأثقال والأوزار التي يحملها على عاتقيه من مات وهو لا يؤمن بكتاب الله يوم القيامة.
وذلك يوم ينفخ في الصور، ويوم النفخ في الصور هو يوم البعث، عندما يفنى الكل ويموت، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧].
والصور قرن على قدر السماوات والأرض يكلف به ملك اسمه إسرافيل، وإذا كان هذا الصور قدره قدر السماوات والأرض، فالذي يحمله لينفخ فيه كم يكون طوله وعرضه وثقله، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص: ٦٨].
قال ﷺ كما في الصحاح: (كيف أسر وملك الصور فاتح فاه محن رأسه على الصور ينتظر الإذن لينفخ فيه)، وهما نفختان بين كل نفخة ونفخة أربعون عاماً.
والعام من أعوام القيامة، أي: اليوم فيه كألف سنة مما تعدون.
فينفخ النفخة الأولى فلا تبقى حياة في الأرض أبداً، ولا في السماوات ولا في البحار ولا في عمق الأرض.
وبعد أربعين ينفخ ثانية فينتصب الخلق قياماً لله، زاحفين إلى الحشر، متخافتين لا يسمع لهم إلا الهمس ووقر أقدامهم على الأرض وهم يتخافتون ويتسارون: كم لبثنا وكم أقمنا في الأرض؟ ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [طه: ١٠٢] يأتي هؤلاء بأثقالهم، وبذنوبهم، وبمعاصيهم.
والمقصود: النفخة الثانية عندما يقومون منتصبين للعرض على الله، وإسرافيل يقول: يا أيتها العظام النخرة، يا أيتها الجلود الممزقة، يا أيتها اللحوم المنتثرة في الرمال وفي الأرض وفي التراب استجيبي لله، فينتصب الكل قياماً ويلهمون المشي إلى أرض المحشر.
وقد ورد عنه ﷺ أن أرض المحشر هي أرض الشام، والتي هي مهاجر إبراهيم، والتي دعا لها ﷺ من بعد الهجرة إلى المدينة وإلى مكة وإلى الحجاز، والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (في مدينة من خير مدائن الدنيا يقال لها دمشق).
قوله: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢]: أي: يحشر الله جل جلاله المجرمين ويسوق الناس إلى المحشر حفاة عراة غرلاً.
وعندما سمعت ذلك أم المؤمنين عائشة من رسول الله ﷺ قالت: (يا رسول الله، أنكون هكذا عراة ينظر بعضنا لبعض؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: هيهات، كل في ما يشغله).
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٧].
فلا فراغ لأن يرى أحد أحداً، وهيهات قد انتهى يوم ذلك، كل يقول: نفسي نفسي! ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ [طه: ١٠٢] مبني للمجهول الذي بينه ﷺ وأنه إسرافيل.
﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢]: أي: المشركين الكافرين الظالمين، يحشر الكل، ولكن الذي يحشر أزرق على غاية ما يكون من الآلام البدنية والنفسية هم المجرمون، والإجرام هنا الشرك بالله، وليس بعد جريمة الشرك جريمة.
زرقاً: جمع أزرق.
قالوا: زرق العيون، هكذا فسرها ابن عباس حبر القرآن.
قال: وشدة الغم، وشدة الهم، وشدة البلوى والمصيبة تجعل هذا المجرم المعذب في غاية ما يكون من الذهول بحيث لا تطبق عيناه ولا أهدابه، فيشتد ألمه حتى يصبح البياض أزرق، لا كالزرقة التي تكون بالفطرة فيمن يخلق الله فيه ذلك، ولكن زرقة الألم والوجع.
وقيل: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢] أي: عمياً، تزرق أعينهم فلا يقدرون على الإبصار.
وقيل: عطاشاً، وإذا اشتد عطش الإنسان ولم يشرب تتأثر بذلك عيناه حتى تزرقا.
والمقصود من الآية: أن هؤلاء المجرمين يحشرهم الله للعرض عليه على غاية ما يكونون من حمل الأوزار والأثقال والذنوب والآثام، وهم مجهدون في الأبدان وفي النفوس على غاية ما يكون من الألم والجهد.


الصفحة التالية
Icon