تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)
قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠].
أي: يعلم ما قدموه من أعمال صالحة أو طالحة، وما صنعوه في دار الدنيا من طاعة لله ولرسل الله: من تحليل الحلال وتحريم الحرام، والله في هذه الساعة هو وحده العليم، فهو أعلم بأنفسنا من أنفسنا، فيعلم من الذي كان في الدنيا يعمل الصالحات، ومن الذي كان يعمل الطالحات، وماذا سيستقبلنا، فالصالح له الصلاح، وله الرحمة والرضا، والطالح له اللعنة والغضب.
فيعلم ما بين أيديهم، أي: ما هو أمامهم، وما سيستقبلهم، ويعلم عرضهم على الله تعالى، وإلى أين يكون مآلهم إلى جنة أو نار، ويعلم ما خلفوه في دار الدنيا من معصية وكفر وجحود، فعلى أساس ذلك من يعمل الصالحات يلق صالحات، ومن يعمل الطالحات يلق طالحات.
وفي هذه الساعة يحتاج الإنسان إلى الزاد، ولا زاد هنا إلا التقوى، والدنيا قد ذهبت بما فيها واندثرت، فخلّف الإنسان زوجته لغيره، وأولاده لأنفسهم، والأموال يقتسمونها، ولا يلحقه للآخرة إلا العمل الصالح، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: ١٩٧].
قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠]: لا يحيط مخلوق بعلم الله، بل ولا يعلم إلا النزر القليل مما علمه الله إياه، فهي كلمات أفادته في الدنيا، وكلمات ستفيده في الآخرة، وأما علم الله الذي وسع كل شيء، فلا يحيط به ملك مقرب ولا نبي مرسل، فلا يحيط بعلم الله إلا الله الذي وسع علمه كل شيء، وأحاط بعلم كل شيء، وهيهات أن يعلم المخلوق من علم الخالق إلا ما لا يكاد يذكر.
ونحن نعلم القصة التي قصها الله علينا في سورة الكهف بين موسى والخضر، والتي دلت على علم الله الواسع الذي لا يحاط به، فعندما سئل موسى كليم الله: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا، قال الله له مؤدباً: بلى! عبدي الخضر، قال: يا رب اجمعني به، فجمعه به بعد محنة وعذاب ومشي من المشرق إلى المغرب حتى وصل إلى مجمع البحرين: البحر الأبيض والبحر المحيط، فكان ما كان واجتمع به، وأراه من غرائبه وعجائبه، وموسى لم يتحمل ذلك لأنه لا يعلمه، وبعد أن أراه وأطلعه على ثلاثة من القضايا في العلم واستقرت نفس موسى رأيا طائراً صغيراً وقف يشرب من البحر بمنقاره فقال الخضر: يا موسى! ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة التي يأخذها هذا الطائر من البحر، وماذا عسى أن تكون هذه القطرة من البحر! قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: ٢٧].
يقرب لنا الله جل جلاله سعة علمه بأنه لو كانت بحار الأرض كلها حبراً ومداداً، وكانت جميع أشجار الأرض قد بريت أقلاماً، وأخذت هذه الأقلام تكتب وتستمد من هذه البحار لجفت البحار، وبعدها سبعة أبحر من أنواعها، وتبقى كلمات الله وعلم الله لا ينفد ولا ينتهي، فكيف يحيط بعلمه جل جلاله أحد من الخلق، وأين الخالق من المخلوق؟! قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠]: أي: علمهم لا يحيط بالله ولا يعرفون له حقيقة، فكل ما يخطر ببالك فربنا مخالف لذلك، ولكن الذي نعلمه ونوقنه وأتى به كتاب ربنا، وزادته سنة نبينا بياناً وشرحاً وتفسيراً: أن الله هو المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، ذو الصفات العلى، والأسماء الحسنى، الخالق الرازق، القيوم على خلقه، المحيي المميت، الذي لا أول له ولا نهاية، فكان الله ولا خلق، وسيفنى الخلق ويبقى الله، والله هو الخالق الرازق القادر على كل شيء.


الصفحة التالية
Icon