تفسير قوله تعالى: (وعنت الوجوه للحي القيوم)
قال تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه: ١١١].
أي: خضعت الوجوه وخنعت لله، خضعت وجوهنا وجباهنا ساجدين، ولنا الشرف بذلك.
والحرية كل الحرية في العبودية لله، والعبودية كل العبودية في التأله على الله والكفر به، وهؤلاء المرتدون الكفار عندما يصفون أنفسهم بالتحرر والحرية ويكفرون بالله يكونون أذل نوع من العبيد، وأحقر من في الأرض، فقد استعبدتهم شهواتهم، ونزواتهم، وبطونهم، وفروجهم.
وأما المتحرر فهو الذي علم لله حقه فخنع له وعنى وجهه له، ومن هنا يقال للأسير العاني، أي: الذليل بين يدي آسره، ذاك بالنسبة للخلق بعضهم مع بعض، أما الذل لله فهو أشرف وصف، ولذا وصف به نبينا في القرآن عندما سماه عبد الله، وأشرف صفة يتشرف بها مخلوق أن يكون عبداً لله، ومن هنا لا يجوز ولا يليق ولا ينبغي أن تحنى هذه الجباه التي خلقها الله بيده إلا لخالقها، ومن هنا كان مالك يسمى حني الرأس سجدة صغرى.
ومن هنا كان السجود لغير الله حراماً، وقد حاول بعض الأصحاب وقد رأوا أتباع كسرى وقيصر ينحنون له، رأى ذلك معاذ بن جبل وغيره، فعندما عاد لرسول الله ﷺ قال له: (يا رسول الله؛ أنسجد لك؟ قال: لا، لا يكون ذلك إلا لله، ولو كنت آمراً أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها)، لو: حرف امتناع لامتناع، منعت الزوجة من السجود للزوج؛ لأن السجود لا يكون إلا لله.
﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ [طه: ١١١] أي: ذلت وخضعت فلا إله غيره، ومن هنا نسجد لله في الفرائض الخمس في كل ركعة، فنسجد على سبعة أعضاء: على الجبهة والرأس واليدين والركبتين وأصابع الرجلين، ولا يتم ذلك ما لم تكن الجبهة ملتصقة بالأرض، إلا إذا كان هناك مانع من مرض، فما جعل علينا في الدين من حرج، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
ومن هنا كانت الصلاة جلوساً، ومن هنا كانت الصلاة إيماءً، ومن هنا كان الصلاة إشارة، فالصلاة لا تسقط إلا عن شخصين: لا تسقط إلا عن غير المكلفين، وإلا فهي واجبة على العبد ما دام حياً ولو في الغرغرة، إلا إذا فقد عقله فقد سقط ما وجب؛ لأنه أخذ ما أعطى، فلا تسقط الصلاة إلا لإغماء أو جنون، وللمرأة لحيض أو نفاس، وكذا الصغير لعدم البلوغ، على أن الصغير أمر وليه ومربوه أن يؤدبوه على الصلاة وهو ابن سبع؛ لأن الصلاة إذا لم يعتدها الإنسان من الصغر لا يكاد يثبت عليها ولا يلازمها.
﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ [طه: ١١١].
الوجوه هي أشرف ما في الإنسان، لم تخضع ولم تضع جباهها على التراب، ولم تذل إلا لله الحي القيوم الحق الواجب الحياة، الحي الدائم، وأما حياتنا فهي حياة زائلة، لم تكن فكانت بإذن الله، وستعود للتراب بأمر الله.
أما الحي الدائم واجب الحياة فهو الله القيوم القائم على كل شيء، والمقتدر على كل شيء، والرازق لكل شيء، والقائم بكل شيء، له حياتنا، وله مماتنا، وعليه رزقنا، منه العز ومنه المغفرة ومنه الرضا؛ لأننا خلقه وملكه، والمالك لا يلام إذا تصرف في ملكه بما يراه الصالح، والله جل جلاله الخالق المختار يصنع ويعامل خلقه كما يشاء، على أن الله جل جلاله حرم الظلم على نفسه كما حرمه على غيره.
ففي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا)، مع أن المتصرف في ملكه لا يعد ظالماً إن صنع به ما شاء.
﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ [طه: ١١١]، الحي الذي لا ينام، الذي لا يغفل ولا ينسى، القيوم على كل شيء، الذي لا يغفله شيء عن شيء، ولا ينسيه شيء شيئاً، ولا يسهو ولا ينام، هو القائم بأرضه وبكونه وبخلقه وبملائكته وبإنسه وبجنه، وبجميع ما في العوالم، هو الذي خلق ذلك ودبره وقام عليه، القيوم المدبر للأشياء والقائم على الأشياء، والرازق للأشياء، والذي يرى لها ما ينفعها مآلاً، وما ينفعها حالاً.
﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه: ١١١]: والظلم الشرك، ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، أي: قد خاب وخسر، وذل وهان من حمل ظلماً، أي: من كان وزره الشرك وظلمه الشرك، وكان ظالماً لنفسه، بل لم يعط الله حقاً بأن يعبده وحده، وبأن يعتبره وحده الخالق القيوم الحي الدائم.
وهذه حال المجرمين، وحال الكافرين، فإن الله جل جلاله لا يكاد يذكر بطشه وقدرته وجلاله حتى يصحب ذلك برحمته وبمغفرته، كما يذكر أهل النار، ويذكر بجانبهم الجنة ليرقق قلوب أهل النار فيعودون لله عابدين تائبين، ويخوف أهل الجنة ما داموا أحياء حتى يثبتوا ويلتزموا، ولا يغرهم الشيطان فيرتدوا على أعقابهم.


الصفحة التالية
Icon