تفسير قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: ١١٥]: الله جل جلاله عاد فذكرنا بقصة آدم وقصة خلقه وإسجاد ملائكته له، ودخوله الجنة ثم خروجه ونزوله للأرض، وقد مضى ذلك مفصلاً مبيناً في سورة البقرة، وفي سورة الأنعام، وفي سورة الكهف.
قول ربنا جل جلاله: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ﴾ [طه: ١١٥]: أي: أمرنا آدم أمراً، وأوصيناه وصية من قبل الخلق كلهم، فما جاء الأنبياء إلا بعده وكلهم أولاده.
ويمكن أن يكون ذلك العهد قبل نبوءته وقبل رسالته لتبقى النبوة محفوظة معصومة عن الذنوب والمعاصي، وسنجد في هذه الآي أن الذي كان من آدم مما كان قبل النبوة، فقوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ [طه: ١١٥]، أي: من قبل النبوة.
وحاول بعض المفسرين أن يفسروها بما لا يليق بمقام آدم ومنزلته، ففسروا (من قبل) أي: وكما عصى هؤلاء وأخطئوا وزلوا أخطأ آدم وعصى وزل.
ولا يقول هذا عالم محقق، ولا يجوز للواحد منا أن يقول: إن آدم عاص، لأنه لا يوصف الإنسان بالعصيان إلا مع التمرس عليه وتتابعه، كما لا يقال الخياط إلا لمن خاط حتى أصبح ذلك مهنته وعمله، ولا نقول للإنسان عاصياً إلا إذا عرف بالمعصية، وكل بني آدم خطاء سوى الأنبياء الذين عصمهم الله بحفظه.
وقد قال الله بعد أن حكى قصة أكله من الشجرة: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ﴾ [طه: ١٢٢] أي: اجتباه نبياً ورسولاً، فلم يكن قبل ذلك نبياً ولا رسولاً، ووقوع الذنوب من الأنبياء قبل الرسالة قد قاله البعض، ولا يخدش في عصمتهم؛ لأن العصمة متلازمة مع النبوة والرسالة، فإذا كان ذلك قبل الرسالة فلا معصية؛ لأنه قبل الرسالة لم يكن قدوة، ولم يكن أسوة، ومع ذلك فمن تكريم الله لأنبيائه أن من أذنب قبل النبوة فإنما صدر منه ما يعبر عنه بخلاف الأولى.
وقد صان الله نبينا ﷺ قبل النبوة وبعدها، وقد سئل عليه الصلاة والسلام: (هل صدر عنك مما كان يصنع قومك من شيء؟ قال: مرتين فقط) وذلك أنه كان في البادية وسمع أن في مكة عرساً في الليل فنزل ليحضر، فعندما نزل ليحضر الغناء ما كاد يدخل دار العرس حتى غلبه النوم؛ يقول عليه الصلاة والسلام: (ما صحوت إلا وحر الشمس في ظهري)، ثم أعاد ذلك مرة ثانية، فعاد الله لحفظه وصيانته قبل النبوة، فضربه النوم فلم يصح إلا والشمس على ظهره ولم ير شيئاً.
ولذلك ألهم أخريات العام الأربعين الذي سيكرم فيه بالنبوة أن يصعد إلى غار حراء وينفرد ويتعبد الليالي ذوات العدد، وكان تعبده التفكر في هذه السموات العلا، وهذه الأرض السفلى، وهؤلاء الخلق بين عزيز وذليل، وكبير وصغير، وسعيد وشقي، أليس لهم خالق، أليس لهم مدبر؟ وهكذا بعد أن هيأه الله لقبول الوحي والرسالة الثقيلة، وقبل أن يزل عليه جبريل ويقول له كفاحاً مواجهة: اقرأ! قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: ١١٥].
أي: عهدنا إلى آدم قبل إرساله ونبوءته.
وقد يقول قائل: إنه كان نبياً لأولاده ولأسباطه، وقد عاش بينهم دهراً طويلاً، فنسي وغفل، وكما قال ابن عباس: ما سمي الإنسان إنساناً إلا للنسيان، ويقول قوم: سمي بذلك لأنسه، وكل ذلك صحيح، فالإنسان لا يستطيع العيش منعزلاً منفرداً، وإن حدث قد يصيبه ذلك بصرع وجنون وألم نفسي بالغ.
ولو ذهبنا نتفكر في كل ما مضى من أعوامنا لما وسعتنا سنوات أخرى، وإن كنا نجد بعضنا أكثر حضوراً وذاكرة من الغير، أما البعض فما أسرع ما ينسى، فقد ينسى ما صنعه في أمسه! قوله: ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ١١٥]، أي: نسي وصيتنا وأمرنا الذي سيبينه بعد بأنه قال له: ادخل الجنة ولك ألا تجوع فيها ولا تعرى، ولا تظمأ فيها ولا تضحى، وكلها متعة لك إلا هذه الشجرة فدعها، ولكن آدم عليه السلام نسي هذه الوصية ونسي هذا الأمر.
قوله: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: ١١٥]: أي: لم تكن له إرادة قوية، ولم يكن له صمود على الحفاظ على الوصايا التي وصاه ربه بها، فغفل ونسي، ولأجل ذلك لم يكن من أولي العزم.


الصفحة التالية
Icon