تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم)
قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى﴾ [طه: ١٢٨].
أي: ألم يروا ويتبين لهم ويتضح ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ [طه: ١٢٨].
أي: من الأجيال ومن الأمم السابقة الكافرة من قوم نوح وعاد وثمود، ومن قوم لوط ومن بني إسرائيل، أفلم يمشوا في مساكنهم فيعتبروا.
والآية في الأصل خوطب بها كفار الجزيرة، وكان لهم رحلة إلى الشام في الشتاء، فكانوا يمرون على أراضي ثمود وعاد الذين أهلكهم الله لكفرهم، وبقيت آثار مساكنهم تدل عليهم، فرأوا آثار اللعنة عليهم وخراب دورهم، ونتيجة البلاء والعذاب الذي سلط عليهم؛ أفلم يخافوا يوماً أن يعاملوا مثل معاملتهم وقد فعلوا فعلهم فكفروا كما كفروا، وأشركوا كما أشركوا، وعصوا كما عصوا؟ وكيف أمنوا على أنفسهم وقد فعلوا أفعالهم ألا يعذبوا عذابهم، وألا ينتقم منهم كالانتقام من أولئك؟ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فهذا سيبقى خطاباً لكل كافر في الأرض ولكل مؤمن منذ البعثة النبوية إلى يوم القيامة، فهؤلاء الذين كفروا بالله في جميع العصور: أفلم يروا آثار الأمم السابقة الذين كفروا كيف عاقبهم الله جل جلاله بالهلاك وبالغرق وبالعواصف وبالزلازل وبالصيحة، عاقبهم بأنواع العذاب مما لا تزال آثار ذلك ظاهرة فيما كانوا يسكنون فيه من الأرض.
وهذه الحفريات التي ابتدأت هذا القرن في البحث عن آثار هؤلاء تزيد ذلك تأكيداً وبياناً، والله تعالى ينبه الكافر قبل وبعد حتى يفكر في العواقب؟ والمعنى: أفلم يفكر يوماً بأنه سيعذب عذابهم، ويعاقب عقوبتهم، فيتوب إلى الله ويعود للإسلام والصلاح والتقوى.
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ [طه: ١٢٨]، كم: للتكثير، أي: أهلكنا وعذبنا وقضينا وعاقبنا كثيراً من الأمم السابقة والأجيال الماضية.
والقرن كما يطلق على الحقبة من الزمن يطلق على الأمة وعلى الجيل وعلى العمر، وهو هنا بمعنى الأجيال والأمم.
قوله: ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ [طه: ١٢٨].
أي: هاهم أولاء يرون أراضيهم والمساكن التي كانوا يسكنونها لم يبق بها حركة، وإنما آثارهم التي دلت على العذاب والهلاك الذي سلط الله عليهم في وقتهم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى﴾ [طه: ١٢٨].
أي: إن في حال الأمم الماضية وما عوقبوا به من هلاك وبوار وزلازل وصواعق وصيحات لآيات لأولي النهى.
والنهى هي العقول التي تنهى عن السوء والفحشاء وعن العصيان، وهكذا الشأن في العقل يقال عنه: نهية؛ لأنه ينهى عن الفحشاء والمنكر ويدعوك للطاعة والصلاح والفلاح، وسمي في الأصل عقلاً؛ لأنه يعقل الإنسان عن السوء وعن الضرر في الدنيا والآخرة.
ومن هنا كان من لم يطع ولم يستفد بعقله كمن لا عقل له، فهو أشبه بالمجنون.
قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [طه: ٥٤]، أي: في هلاك الأمم السابقة والناس تمشي في مساكنهم ويرون آثارهم، ﴿لَآيَاتٍ﴾ [طه: ٥٤]، أي: لعلامات تدل على صدق الرسل وصدق الكتب المنزلة عليهم، ﴿لِأُوْلِي النُّهَى﴾ [طه: ٥٤]، أي: لأصحاب العقول التي تنهى عن السوء والمعصية، وللعقلاء الذين يدركون ويعقلون ما يقال لهم.


الصفحة التالية
Icon