تفسير قوله تعالى: (اقترب للناس حسابهم)
قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١].
تكلمنا عن البسملة كثيراً في أوائل السور، وندخل الآن للموضوع رأساً فنقول: قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١].
استضاف سعد بن أبي وقاص استضاف رجلاً من العرب فأكرمه، ثم عرفه برسول الله عليه الصلاة والسلام ليؤمن به، واستقطع رسول الله أرضاً ووادياً، فجاء هذا الضيف إلى سعد، وقال: لقد أقطعني رسول الله أرضاً من وصفها ونعتها كذا وكذا، أريد أن أقطعك منها قطعة، قال: لا تفعل، ولا حاجة لي بها، فقد نزلت اليوم سورة ذهلت لها عقولنا، وكرهنا لها الحياة، وقد انتهت وقربت الساعة، قال: ما هي؟ قال: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١].
هذه السورة ابتدأت بالكلام عن الساعة، وانتهت بالكلام عن قصص الأنبياء وما فيها من عبر وعظات تنذر الكافر وتبشر المؤمن.
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] أي: اقتربت الساعة وقرب وقتها وزمنها، (اقترب للناس) أي: اقترب من الناس، فاللام هنا بمعنى: من.
والمعنى آن الأوان، وأصبحت الساعة قريبة، لأن الحساب لا يكون إلا يوم القيامة.
﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١]، هذه الواو يقال لها: واو الحال، أي: حال كونهم معرضين عنها وعن أهوالها وعن عذابها وعن اليوم الذي هو كألف سنة مما تعدون، الناجي من المعروضين على الله لا يكاد ينجو حتى يصل إلى ما لا تطيقه نفس بشرية، ولو كانت الدنيا لا تزال لمات موتات قبل أن يعلم النتيجة، وأنه من الذين رضي الله عنهم وسيدخلون الجنة.
في هذا اليوم يشيب الرضيع، ويشتد البلاء على الناس، ويشتد العرق حتى يغرقوا في عرقهم، والبعض للركبة، والبعض للسرة، والبعض للثديين.
ومن هنا كانت مزية في هذا اليوم للمؤذنين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً)، ومن لم يفهم ذلك لا يفهم الحديث، وما الجَمال في طول العنق أكثر من اللازم؟! فهنا يوم العرض على الله، يوم الشدة والكرب، من كان طويل العنق كما ذكره الله على المؤذنين، مهما غمر في العرق وفي المحنة والعذاب تبقى حواسه في منجاة من ذلك؛ العينان والأذنان والمنخران والفم.
وقيامة كل إنسان موته، فهو بموته تكون قد انطوت صحيفته في الدنيا، ويبتدئ حسابه في القبر، يسأله الملكان: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فإن أجاب بما نجح به وفاز يريه عن يمينه ويقول له: هذا مكانك من الجنة، فيرى بعينه ما لا يحده البصر من أنواع النعيم بما تقر به عينه، وتلذ به نفسه، ويعيش بهذا النعيم ممتع الروح والنفس إلى البعث، ثم يقول له: انظر يسارك، هذا مكانك من النار فيما لو لم تكن جئت مؤمناً موحداً تائباً، فيزداد حمداً لله على أن أنجاه من النار، وأنقذه منها، والعكس بالعكس، يُرى ما على يساره للكافر وللعاصي فيزاد عذاباً في نفسه وروحه، ويزداد حسرة عندما يقال له: انظر على يمينك، لو أحسنت الجواب وعشت مؤمناً في دنياك أين كان سيكون مكانك ومقامك.
والرسالة المحمدية نفسها هي العلامة الأولى على قرب الساعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين: وأشار بالسبابة والوسطى) أي: ما بين القيامة وبين ما مضى كقدر ما بين السبابة والوسطى، ولكننا لا نعلم كم مضى لنعلم ما يأتي.
ومن هنا بقي يوم القيامة مجهولاً عند الخلق، فلا يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وفي حديث جبريل الذي جاء فيه نبي الله عليه الصلاة والسلام يسأله، كان فيما سأله: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ثم أخذ يذكر علاماتها.
ولها علامات صغرى وكبرى، وتكاد العلامات الصغرى كلها تكون قد مضت، ونحن ننتظر العلامات الكبرى، وهي من الهول بمكان، ومن الفتنة والبلاء بمكان، أنقذنا الله من فتنها وبلائها.
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١] أي: حال كونهم معرضين غافلين عما يجب أن يكون عليهم من تقى، ومن تجديد توبة، ومن إيمان بالله وبرسله، ومن عمل بما جاء في كتب الله، وعن رسول الله بياناً وتفسيراً وشرحاً، فالله ينزل هذا على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هو تنبيه لأتباعه من المؤمنين ليتعظوا ويبتعدوا عن الإعراض والغفلة، وقليل من يفعل ذلك.