تفسير قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم)
قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنبياء: ٢] الذكر هنا قد يكون القرآن، وقد يكون محمداً عليه الصلاة والسلام.
وعلى أي اعتبار إذا كان الذكر هو القرآن فالقرآن الذي نزل عليه ونطق به هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذكر نبينا عليه الصلاة والسلام فالمعنى واحد.
فهو الذي ذكّرنا وذكّر الأمم معنا والخلائق إلى يوم القيامة، فوعظهم، وأنذرهم، وبشرهم، وبين لهم ما ينفعهم مما يضرهم، ولم يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى لم يترك شاذة ولا فاذة إلا بينها لأصحابه ليبينوها لمن يأتي بعدهم، كما في الحديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم)، وفي الحديث الآخر: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها).
فالإسلام بلغه النبي ﷺ بنفسه إلى أمته من الصحابة المهاجرين والأنصار، وهم بلغوا من بعدهم من التابعين، والتابعون بلغوا تابعي التابعين، وهكذا حدث في مشارق الأرض ومغاربها، الآباء والأجداد نقلوا إلينا هذا الكتاب الذي حفظ في الصدور.
وليس هناك كتاب في الأرض -بما فيها التوراة والإنجيل- نقل هذا النقل المتواتر المستفيض المطبق عليه إلا القرآن، وليقرأ اليهودي من التوراة ويمكن أن يحرف زيادة على التحريف الماضي، ولا يجد من يقول له من قومه وجماعته وأحباره: أخطأت، قدمت أو أخرت! وقل مثل ذلك على النصراني في إنجيله.
أما القرآن فرغم تقصير الناس اليوم في حفظه ووعيه لا يكاد يتلو تال، أو يقرأ قارئ آية من كتاب الله فيغلط في حركة إلا ويجد الناس منبهين له، مرشدين له، داليه على أنه أخطأ، ومن هنا كان تمام الحفظ للقرآن: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: ٢].
إن كان وصف الحدوث للنبي ﷺ فالأمر واضح، فهو قد حدث ولم يكن صلى الله عليه وعلى آله موجوداً، وإن كان وصف الحدوث للذكر -أي: القرآن- فليس معناه الخلق، ولكن معناه التجديد، فالقرآن ليس بحادث ولا مخلوق؛ لأن القرآن كلام الله، ولا يليق أن يوصف القديم بحادث، فيكون ذلك شركاً، ويكون ذلك فساداً في العقيدة والتوحيد، وإن كنت أميل أن الذكر هو النبي عليه الصلاة والسلام كما سيأتي في الآيتين بعد.
(وما يأتيهم) أي: العباد: ﴿مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [الأنبياء: ٢] والنبي ﷺ جاء عن الله متكلماً، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فالسنة المبينة المفسرة الشارحة لكتاب الله هي أيضاً وحي من وحي الله.
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: ٢]، أي: جديد، والقرآن كان ينزل منجماً، وقد نزل دفعه واحدة في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا، ثم كان ينزل به جبريل على قلب النبي عليه الصلاة والسلام منجماً، وقتاً بعد وقت، وزمناً بعد زمن، حسب الحاجة إلى ذلك، وكانت أول آية في غار حراء، عندما جاءه وقال له: اقرأ إلى أن قال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١] إلى آخر الآيات.
ثم أنزل قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام بشهرين أو ثلاثة في حجة الوداع قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] وكانت المسافة بين أول آية من القرآن وآخر آية من القرآن ما يزيد على عشرين عاماً، فهذا الذي ينزل آية بعد آية ما جاء منه متأخراً يكون جديداً بالنسبة لما جاء متقدماً، وكان أشد الآي في النزول هذه الآية المتممة، الخاتمة المنهية، وكان أقدمها في النزول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١]، فمحدث هنا بمعنى: الجديد، لا بمعنى الحدوث والخلق، والمعنى: ما يأتي العباد من ذكر من ربهم جديد إلا استمعوه وهم يلعبون.
وهكذا قيلت هذه وقت النزول على نبينا عليه الصلاة والسلام، وأعرضت قريش، ثم أعرض العرب، وبعد ذلك أخذ الله يكرم من أكرمه بهدايته فآمن، ومن كفر منهم: إما ذهب في حال كفره، أو أصر وشرد وعذب، وإلى اليوم ولا يزال الكفار أكثر سكان الأرض، بل ولا يزال كثير من المؤمنين معرضاً، يستمع كتاب الله وسنة نبيه وهو يتلاعب، تقول له: قال الله، فيقول لك: وماذا أيضاً؟ تقول: قال رسول الله، فيقول لك: قال فلان قال فلان فيذكر أسماء قذرة نصرانية ويهودية ومنافقة، تقول له: أقول لك: قال الله وتأتيني بهذه الأسماء؟ فيهز كتفه، وكأن الأمر لا يعنيه وهو متلاعب! وهذه هي الردة الجديدة التي قال عنها بعض العلماء المعاصرين: ردة ولا أبا بكر لها، الردة الأولى وجدت في عهد أبي بكر فزجر وأدب وسل سيفه إلى أن ردع أهلها وأصحابها، فأعاد للحق من أعاد، ودفن في التراب من سبقت عليه الضلالة في علم الله.
ونحن اليوم نعيش في ردة جديدة، تحتاج إلى أبي بكر جديد، والله آت به، فنحن على رأس القرن الذي يقول عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) فبيننا وبين أصل القرن عامان، مع تمام هذا العام وهذه السنة.
قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنبياء: ٢] أنصتوا إليه غير موقنين ولا عازمين على العمل، ولا مشمرين الأيدي للعبادة والطاعة، ولتحليل الحلال وتحريم الحرام، والتزام ما أمر الله بفعله، وترك ما نهى الله عنه.


الصفحة التالية
Icon