تفسير قوله تعالى: (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض)
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأنبياء: ٤].
أي: النبي ﷺ هو الذي قال: ﴿رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنبياء: ٤]، أي: ربي جل جلاله يعلم القول الصادر عنكم، وما جزاؤكم فيه، فهو يعلم الغيب في السماء والأرض، ويعلم أأنا صادق مرسل من قبله، وهل أنتم صادقون في تكذيبكم وجحودكم.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنبياء: ٤] السميع لأقوالي وأقوالكم، العليم بباطني وباطنكم، وسيجازي كلاً منا حسب قلبه وقوله وادعائه، وهذا نذير ووعيد، وهذا مما يؤكد أن الذكر في قوله: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: ٢] وهو النبي عليه الصلاة والسلام.
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ﴾ [الأنبياء: ٥].
لم يكتفوا بهذا القول، بل أخذوا يزدادون في الكفر ويتنوعون في أقواله: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥] أخذ هؤلاء يقولون عن القرآن: ليس هو إلا أضغاث أحلام، والأضغاث جمع ضغث أي: التآويل والرؤى الباطلة، والتي لا ظل لها من الحقيقة، وأحلام: جمع حلم، وهو ما يرى في المنام، أي: إنما هذه منامات وأحلام رآها في المنام فيدونها وينطق بها.
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ﴾ [الأنبياء: ٥] أي: بل زادوا على الكفر بما تجاوزوا فيه الحد فقَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ.
(بل افتراه) أي: اخترعه ونسبه إلى الله كذباً.
والنبي هو أفصح العرب على الإطلاق ومع ذلك نجد ما بين كلام النبي ﷺ على فصاحته وبلاغته وما بين كلام الله في كتابه ما بين الخالق والمخلوق.
وقد أوتي النبي ﷺ جوامع الكلم حقاً، ومع ذلك أين بلاغته من بلاغة القرآن؟! أين فصاحته من فصاحة القرآن؟! فإذا صدق نزلت درجة بلاغته إلى حد السنة دون القرآن، وإذا هو أفترى وحاشاه من ذلك ارتفعت فصاحته إلى درجة الإعجاز، ومن يقول هذا آثم! إنما يقوله فاقد العقل ممرور النفس.
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء: ٥] حاروا ماذا يقولون، أخذوا يضربون أخماساً في أسداس، ويجددون التهمة بين الحين والحين، تارة هي أحلام، ومن قبل هو بشر، ثم افتراه، ثم هو شاعر.
وهكذا عنادهم وجحودهم وكفرهم! إلى أن أدبوا يوم بدر، بين شريد وقتيل وأسير في المعركة، إلى أن أعز الله دينه، فالنبي ﷺ لا يزال حياً بين ظهرانيهم، ومن هنا قال النبي في هذه الرؤيا: (رأيتني -رأيت الليلة- أننا في دار عقبة بن رافع وأتينا بتمر من تمر ابن طاب) فأولها ﷺ وكانت المعارك لا تزال حامية الوطيس بينه وبين كفار العرب، فقال: (أولتها: أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب).
وهكذا كان الحال، رفع الله نبيه في الدنيا قبل الآخرة، ورفع المؤمنين، وكانت العاقبة لهم في الدنيا قبل الآخرة، وطاب دينهم واستوى وفرض وانتشر، وذل الكفر، وجئنا نحن بعد البعثة بألف وأربعمائة عام، ولا يزال الإسلام معلناً على المنابر والمآذن في مشارق الأرض ومغاربها: أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، رضي من رضي، أو كره من كره، ولا تزال بيوت الله في مختلف قارات الأرض عامرة، مع كثرة أعداء الله في الداخل والخارج من المنافقين والنصارى واليهود، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها.