تفسير قوله تعالى: (وله من في السماوات والأرض)
قال تعالى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الأنبياء: ١٩].
أي: يا هؤلاء! الذين ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا غيرهم، والذين جعلتم لله شركاء، وتصورتم الله تصوركم لأنفسكم، فجعلتم له صاحبة وولداً: إن الله له من في السماوات ومن في الأرض خلقاً وتدبيراً ولم يكن المملوك يوماً شريكاً، ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٣]، فلسنا إلا عبيداً، فإن أكرمنا بالعبودية فسنكون من قادة الناس بتحقيق تلك العبودية.
فلا صاحبة ولا ولد ولا شريك له، وما كان له من أنبياء مكرمين صادقين فكلهم معصومون، لم يأتوا إلا بالحق، ولم ينطقوا إلا بالحق، أتوا بالآيات البينات المعجزات من الله جل جلاله علامة وأمارة لصدقهم قولاً، ولصدقهم فعلاً، ولصدقهم إقراراً.
﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩].
أي: ومن عنده من الملائكة في عليين، وفي الملأ الأعلى، هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يستنكفون عن عبادة الله كما يستنكف بعض الإنس والجن.
﴿وَلا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩] لا يكلون ولا يملون ولا يتعبون، هم في عبادة دائماً صباح مساء، ليل نهار، قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا، يا رسول الله لا نسمع، قال: أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد).
وهؤلاء يعبدون الله في كل أحوالهم، عبادتهم بالنسبة لهم كالنفس بالنسبة لنا، كما أننا لا نستطيع العيش بلا نفس، فكذلك الملك يعيش بالذكر، وبالتسبيح، والسجود، والركوع، وبتعظيم ربه، كل يذكر الله بما ألهمه، وكل يعبد الله بما ألهمه، فمن قائم وراكع وساجد، يقولون: لا إله إلا الله، بمختلف خلايا جسومهم وأبدانهم، لا يكلون ولا يملون ولا يستكبرون ولا يستحسرون، لا يتعبون.
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الأنبياء: ١٩].
(من) في لغة العرب تطلق على العاقل وحده، و (ما) تطلق على غير العاقل وحده، تقول: جاء الرجل من كان عندنا بالأمس، وتقول: اشتريت دابة مما كان عندي نظيرها بالأمس، يقال: (ما) ولكن (من) قد تشترك مع العاقل ومع غير العاقل، كما أن (ما) كذلك.
(لا يستحسرون) أي: لا يملون ولا يكلون، وأصل الحسر: الدابة إذا تعبت حسر بعض جلدها؛ نتيجة التعب وما تحمل، فأطلقت الكلمة على الكلل والملل في نجمها، فهؤلاء لا يكلون ولا يملون، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠]، أي: بلا فترة ولا راحة، ولا زمن يهدءون فيه وقتاً، ويعودون إلى العبادة وقتاً، فالعبادة مستمرة دائمة، عبادتهم دائمة كالنفس لنا، كما أننا لا نعيش بلا نفس، لا يعيشون بلا عبادة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون.


الصفحة التالية
Icon