تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت)
قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [الأنبياء: ٣٥].
أي: أخبر هؤلاء الذين تربصوا بك الموت، وانتظروا غيابك، أنه ليس الموت واجب عليك فقط، بل الموت حق على كل نفس، كل من له نفس يصعد ويهبط إلا ونهايته الموت.
قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧]، وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] فلن يعيش أحد دواماً، ولن يخلد أحد دواماً، ولكن الحي الدائم هو الله جل جلاله، الواجب الوجود، والحي الذي لا يموت، وما سواه من ملك أو جني، أو إنسي يموت.
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥] أخبر تعالى أن الموت حق لا بد منه على كل حي، إلا الله الحي الدائم، ثم قال: (ونبلوكم) أي: نختبركم ونفتنكم ونمتحنكم (بالشر والخير فتنة)، يبتلي خلقه ويفتنهم تارة بالشر وتارة بالخير، يبتلينا بالفقر، وهو فتنة وبلاء واختبار، ويبتلينا بالغنى، وهو فتنة وبلاء، ويبتلينا بالقوة والصحة كما يبتلينا بالمرض، ويبتلينا بالشبيبة والقوة كما يبتلينا بالشيخوخة، ويبتلينا بالعز والسلطان وبالحكم وبالأمر والنهي، ويبتلينا بالذل والهوان، والاستعمار، ولكل ذلك سبب، ولكل ذلك حكمة، وهو على كل اعتبار إن كان خيراً فهو ابتلاء وفتنة، وإن كان شراً فهو ابتلاء وفتنة، والكل من الله.
ولذلك: لا خير يدوم، ولا شر يدوم، ولكن الله يبتلي بالخير من شاء ليرى: هل سيشكر على ذلك الخير أم يكفر؟! ويبتلي بالشر، ليرى عبده: هل سيصبر على ذلك الشر أو يكفر ويزداد عناداً ويتخذ من ذلك كفراً؟! ولذلك: فلا ييئس الفقير من رحمة الله ومن غناه، ولا ييئس المريض من عفو الله وعافيته وصحته، ولا الغني ولا القوي يجوز له أن يطغى ويتكبر، فمن أتاه بالمال قادر على أن يذهبه ويدمره، ويسلبه منه، ومن أتاه بصحة وبقوة قادر على أن يسلبه كل ذلك، ولكن الضابط في كل هذا: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧].
الشكر يديم النعم، فمن أغناه الله وأصحه وأعزه، فالشكر باللسان واجب، ولكن أوجب منه الشكر بالعمل، بأن يعطي من ماله، ويعطي من صحته، ويعطي من قوته، ﴿وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] أحسن بالعطاء وبالهبة، وبالنفقة وبالزكاة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: هلك الأغنياء ذوو الكثرة، إلا من أتى إلى هذه الكثرة فوزعها بين نفقة على الأولاد، وصدقة على الفقراء، وزكاة لماله فيما أوجب الله عليه.
(وللسائل حق ولو جاء على فرس)، فإن جاءك سائل فأعطه مما أعطاك الله ولو جاءك راكباً على فرس، والله قد وصف المؤمنين بأنهم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: ٢٤ - ٢٥].
أي: حق للسائل إذا سأل، وحق للمحروم من العطاء ومن الصحة ومن العز؛ ولذلك الشكر في كل حال على حسيه، شكر باللسان: (ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله)، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام.
والشكر بالعمل، فيما كان من الله عطاء ورزقاً وشيئاً ملموساً مرئياً محسوساً، أما أن تجمع الأموال وتقول: أشكر الله، أما تتمكن من القوة والنفوذ والسلطان وتقول: أشكر الله، وأنت لا تعطي فقيراً ولا تساعد ضعيفاً، ولا تسعى في عز ذليل، ولا تكون في عون محتاج أو فقير، فليس ذلك الشكر، وليس ذلك الحمد، ويوشك من لا يحمد الله على نعمه وآلائه أن يسلبها، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧] أي لئن جحدتم النعمة ولم تشكروها ﴿إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧]، أي: يسلبها وتزول عنه؟ ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥]، أي: وبعد كل ذلك فـ (إلينا ترجعون)، فتعرضون على الله يوم القيامة، الشاكر والصابر، والكافر والمؤمن، والفقير والغني، والذليل والعزيز، والمبتلى بالشر والمبتلى بالخير؛ ليؤدي الحساب عن ماله فيم صرفه؟ وعن شبيبته فيم استعملها؟ وعن ماله فيم أنفق؟ وعن عزه من أعز به من الذليل والمقهور والمغلوب عن أمره؟! وقوله: ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥] هو وعيد وتهديد لهؤلاء الجاحدين الكافرين، الذين ابتلوا بالخير فلم يحمدوا الله، وابتلوا بالشر فلم يصبروا على بلاء، وإن هي إلا أيام وتنقضي، إن كانت خيراً فلا يدوم، وإن كانت شراً فلا تدوم، ولا يدوم إلا الله الواحد جل جلاله وعلا مقامه.
وهذه السورة الكريمة تسمى بالأنبياء ويعرض الله علينا فيها حال أنبيائه ورسله، وأنه ما أرسلهم إلا بالتوحيد، وما أرسلهم إلا بالعبادة، وما أوحى لهم إلا ذلك.
وما حدث من تغيير وتبديل من أصحاب الأديان السابقة ممن زعموا أنفسهم يهوداً أو نصارى أو مجوساً، كل ما زعموا، أنه من الله، وعن أنبياء الله، وأنه جاء في كتب الله، كل ذلك الذي زعموه من جحود وكفر ومعصية كل ذلك افتراء على الله، وكذب على أنبياء الله، ما أنزل الله به من سلطان.
وكون النبي عليه الصلاة والسلام أكرم الله به الخلق، وختم به الأنبياء؛ ليصحح ما صح في الكتب السابقة، وليزيف ما افتروه وكذبوه، وحرفوا فيه، وتزيدوا فيه من شرك وكفر، وقذف للأنبياء، وكذب على الله، كل ذلك ما جاء الله بخاتم أنبيائه رسولاً للناس كلهم إلا ليعود البشر إلى الطريق السوي إلى المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك.
فالقرآن لم يغير، ولم يبدل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أبداً حق وصدق، وهو أبداً يأمر بالخير، وينهى عن الشر، يحلل ما ينفعنا، ويحرم ما يضرنا، ويعلمنا الحقائق والعقائد، وذكر الله وتمجيد الله، وتسبيح الله، وتنزيه الله عما زعمه الأفاكون، وافترى به المشركون، وكذب به الكاذبون، وليعود الناس إلى الصدق والوفاء بالعهد، وإلى الرحمة بين الكبير والصغير، وبين القوي والضعيف، وبين العزيز والذليل، ليعود الناس إلى أصل خلقتهم، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
يعبدون الله آناء الليل وأطراف النهار، بالصلوات الخمس التي أمرنا الله بها عند مطلع الفجر، وقبل شروق الشمس، وفي أطراف النهار عند الزوال، وقبل مغرب الشمس عندما يصير ظل كل شيء مثليه، وعند العصر، وفي أول الليل المغرب، وبعد ذلك بساعة ونصف إلى غياب الشفق، ثم التهجد في الثلث الأخير من الليل، فتلك ساعة كريمة وعظيمة لمن قام والناس نيام، في تلك الساعة ينزل ربنا إلى السماء فيقول: هل من داع فأستجيب له؟! هل من مريض فأشفيه؟! هل من عار فأكسوه؟! هل من جائع فأشبعه؟!.
ينزل جل جلاله في تلك الساعة وقد نام الكسالى والضائعون، ونام المسرفون على أنفسهم، يقوم من فراشه ومن عند زوجته ليقف بين يدي ربه خانعاً، مستسلماً داعياً ضارعاً، وهو في كل ذلك يتبع سنن المرسلين السابقين التي جاءت هذه السورة لبيان سننهم وأخلاقهم وسلوكهم، يعيدها الله على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولنسمعها نحن، ونتخذ أنبياء الله في الأسوة وخاتمهم صلوات الله عليه وعليهم، هو الأسوة والقدوة الأعظم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١].
وهكذا عندما ندرس ونتدارس سورة الأنبياء أي: سلوكهم وعبادتهم وأخلاقهم ودعوتهم، وما لقوا من الناس من جحود وكفران، وما تحملوه من هؤلاء الجاحدين وهم يدعونهم إلى الله، ويرشدونهم إليه، وينفرونهم من المعصية والظلم والطغيان، ومن الكفر والجحود، ويكونون في أنفسهم أئمة يقتدى بهم سلوكاً، ونطقاً وعملاً.
وهكذا كانت تسمية السورة بالأنبياء لفتة لنظر من يتلو هذه السورة، ولمن يدرسها ويتتبع تفسيرها؛ ليعلم كيف كان عليه عباد الله المكرمون من الملائكة، والنبيين لكي يصلح الإنسان العادي غير المعصوم نفسه، وليتخذهم أسوة وقدوة وأئمة.
والله بفضله وبكرمه أرسل لنا رسلاً مبشرين ومنذرين، ليعلمونا ويرشدونا ويعظونا، ويهدونا، ويبينوا لنا الحق لنتبعه، والباطل لنجتنبه، ومن هنا كانت الحياة فرصة للإيمان بالله، والعودة إلى الله، ولتبقى الحجة البالغة لله.
إذاً: فهذه هي الدنيا التي ليست إلا كثوان، وعن قريب ستنقضي، فعلى الإنسان بقبول الرسالة وتصديق الأنبياء، واتباع خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وانتهاج نهجه، واتباع طريقته، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ومن هي هذه الواحدة يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
فكل ما تسمعون من مذاهب وطرائق لقادة اليهود أو النصارى أو المنافقين أو الملحدين، أو المعطلين، تلك هي الفرق التي نص رسول الله ﷺ عليها، ونبهنا من خطرها، لنكفر بها، ونبتعد عنها، ونزيفها، والطريق الحق يجب أن نبحث عنه في السيرة النبوية، وسيرة الأصحاب رضوان الله عليهم.