تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [الأنبياء: ٤١].
هذه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتشجيع له، وتقوية لنفسه من ربه ومرسله وخالقه جل جلاله.
قوله: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [الأنبياء: ٤١] أي: رسل أرسلناهم قبلك، منذ أبينا آدم إلى إدريس إلى نوح إلى إبراهيم إلى جماعة أنبياء بني إسرائيل إلى النبي الذي سبقك ببضع قرون وهو عيسى عليه وعلى نبينا وعليهم جميعاً السلام، تلك عادة الكفار، وسنة المرسلين؛ ليكونوا قدوة للمؤمنين بعدهم؛ حتى إذا استهزئ بهم لا يكلون ولا يملون، ولا يتراجعون، بل يمضون قدماً إلى النجاح أو الموت، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم، فعندما جاء كفار قومه إلى عمه أبي طالب، وعرضوا عليه الملك والتزويج بمن شاء من بنات قريش، وعرضوا عليه الغنى حتى يصبح أغناهم على الإطلاق، وإذا بـ أبي طالب كأنه ظن أن هذا إنصاف من قومه، فعرض ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجيب النبي ﷺ عمه بكلمته الصارمة، وهو الأسوة والقدوة لكل داعية بعده، فيقول: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي -ومن ملك الشمس والقمر ملك الدنيا بحذافيرها؛ لأن الكون لا يعيش بلا شمس، ولا يعيش بلا قمر- على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام على كثرة ما آذوه وشتموه، وعلى كثرة ما تآمروا عليه، وأدموا قدميه الشريفتين، وكسروا رباعيته، وهجروه السنين حتى كان يأكل ورق الشجر، وحتى كان يربط على بطنه الحجر من الجوع، وهو في كل ذلك صامد صمود الجبال، راسٍ رسو الجبال الشوامخ، لا تأخذه في الله لومة لائم، يدعو إلى ربه ليلاً ونهاراً، حضراً وسفراً إلى أن حج بهم حجة الوداع، قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام بأشهر، وهو يشهد الله ويشهد خلقه، قائلاً: (اللهم هل بلغت؟) فيقول الحاضرون: نعم قد بلغت، فيقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد).
فقد أشهد ربه على أنه قد بلغ رسالته، وعلى أن من بلغهم يشهدون بذلك ويعترفون به؛ ولذلك لقي الله راضياً مرضياً، مطمئن النفس على أنه قد قام بما أرسل به، وبلغ أحسن بلاغ إلى أن هيأ للرسالة من يحملها بعده من أمثال الرعيل الأول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وجاء الرعيل الثاني من التابعين فحملوا الرسالة، وهكذا كل جيل يحملها إلى الجيل الذي بعده حتى عصرنا، رغم كفر الكافرين، ويهودية اليهود، ونصرانية النصارى، وفي الحديث المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، وهم على ذلك إلى يوم القيامة)، ولكن الله يبتلي بالشر والخير فتنة، فمن بلي في نفسه، أو في جسمه وهو يدعو إلى الله، فإن صبر فله الجنة، والفوز أخيراً، فالله ناصر رسله وعبادة المؤمنين، والعاقبة للمتقين.
فمعنى الآية: ولقد استهزئ برسل من قبلك يا محمد، فاحمل وصفه، واتخذ من الأنبياء قبلك أسوة، فلست بدعاً من الرسل، فكما استهزئ بك استهزئ بهم، فصبروا وتحملوا، وعاشوا على ذلك إلى لقاء الله، وقبل الموت كان الظفر والنصر لهم، سحق الله أعداءهم، وجعلهم خاضعين عند قدميه، وقد ذلوا، وشردوا وقتلوا، وأسروا وهدى الله من كتب له الهداية، وعلم في قلبه الخير، قال تعالى: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾ [الأنفال: ٧٠].
قوله: ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [الأنبياء: ٤١].
أي: فأحاط بالذين سخروا من هؤلاء الكفار عقوبة أخرى أشد من عقوبة الكافرين عموماً، فالكافر عن جهل ينتظر به لعل الله أن يهديه، والكافر المستهزئ العنيد لا يكتب الله له إلا سوء الخاتمة؛ نتيجة عناده وحرصه على الكفر واستهزائه بعباد الله المكرمين وبرسله صلوات الله عليهم أجمعين، فحاق العذاب بهؤلاء المستهزئين من بيننا، وحاقت بهم النقمة، وماتوا على سوء الخاتمة، وضلوا في الدنيا، وعوقبوا يوم القيامة بالسعير خالدين مخلدين أبداً: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء: ٥٦].