تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)
قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: ٤٧].
يخبر تعالى عن هؤلاء أنهم مهما عاشوا فسيموتون، ومهما طال موتهم فسيحيون، وسيأتوننا للعرض على الله للحساب والعقاب.
قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] يعطينا صورة مشخصة كأننا ننظر إليها، أي: عاش الناس، ثم ماتوا وبعثوا، ووضعت الموازين لوزن أعمال العباد من خير أو شر، هذه الموازين التي تتصف بالعدل المطلق، لا تزاد فيها سيئة في ذنوب مسيء، ولا ينقص من حسنته شيء، بل قد تزيد الحسنات وتنقص السيئات.
المعروف أن الميزان هو ميزان واحد، ولكن الله قال: (موازين)، فقد يكون المعنى: أن عند كل أمة ميزان، وقد يكون أطلق (موازين) باعتبار زنة أعمال الخلق كلهم، على أن الله قال هنا: الموازين، وإذا ذكر في السنة الميزان، فهو الميزان الأجمع الأكبر الأشمل.
قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] حاول بعض المفسرين أن يقول: الموازين إنما هي مثل في العدل، وعدم النقص، بل الزيادة في الخير، فلا موازين هناك، وروي هذا عن الضحاك وعن جماعة من كبار المفسرين، ولكن هذه زلة من هؤلاء؛ لأن الميزان ثابت بالنص في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، تفسيراً لما ورد من ذلك في كتاب الله، وإلغاء ذلك وجعله مثلاً لا يعني إلا النفي لما قد ثبت، وقد يأتي ضال آخر إلى الأشياء التي ذكرت ويقول: كلها أمثال، وقد حدث ذلك من كثير من المبتدعين.
فالميزان ميزان، يسع السموات والأرض، له لسان، وله كفتان ترجح إحداهما بالخير أو بالشر.
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] أي: موازين العدل والحق والإنصاف ليوم القيامة، يوضع ذلك يوم العرض على الله، وجاء في الموازين حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كلمتان ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
وقد ورد في الصحاح عن جماعة من الصحابة أن مسلماً تعرض أعماله على الميزان في آخر الناس، وإذا بسيئاته تكتب في تسعة وتسعين سجلاً، وتوضع في الميزان، فتطيش كفة الحسنات، وتثقل كفة السيئات، فيؤخذ به إلى جهنم، فينادي مناد من الملائكة بأمر الرب جل جلاله: أرجعوه! أرجعوه! فيرجع، فيقول الله له: لا ظلم اليوم! إن لك حسنة لم تؤزن بعد، فيؤتى بالبطاقة فيراها هذا المحاسب، فيقول: يا رب! ماذا عسى أن تكون هذه البطاقة أمام هذه التسعة والتسعين من سجلات السوء؟ فتوضع البطاقة في كفه الحسنات وإذا بها تسقط كفة السيئات، وإذا به يقال: خذوه إلى الجنة، وفي البطاقة مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والحديث مشهور بحديث البطاقة، وهذه الكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله) لا توضع في كفة ولا ميزان إلا ويثقل بها الميزان، وتخف السيئات، حتى ولو كانت تسعة وتسعين سجلاً.
يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: ٤٧] (شيئاً) يطلق على أقل شيء حتى الذرة.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾ [الأنبياء: ٤٧].
وإن كان هذا الشيء يزن حبة الخردل، وحبة الخردل المعروفة لا تكاد ترى، فلو سقطت من يدك إلى الأرض فإنها تضيع ولا تراها، فلو كانت الحسنة بمقدار هذه الحبة من الخردل يقول الله: (أتينا بها)، أي: حسبناها ووضعناها في ميزان من يحاسب، ولهذا جاء في حديث البطاقة: (ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾ [الأنبياء: ٤٧]) أي: عددناها، وحسبناها، فوضعناها في ميزان حسناتك.
قوله: ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] أي: يكفي بما يقوله جل جلاله، لا يحتاج إلى من يحسب ولا من يعد، و (حاسبين) أي: عادين وحاصرين، ويكفي الله محاسباً ولو كانت كلمة قالها اللسان، ولم تعمل بها الأركان، ولكنه مات على يقين وهو يعتقد بقلبه أن الله واحد لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ومات على هذا يقيناً، ونطق به اللسان سواء عند الموت أو قبل الموت، ففي الأحاديث النبوية: (من مات وهو يقول: لا إله إلا الله، دخل الجنة)، (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة).
ولكن هل سيدخل الجنة بمجرد قوله ذلك دون أن يحاسب على ما بدر منه؟ كل ذلك محتمل، ولا نبت بشيء بخصوصه، فهو لابد أن يدخل الجنة، ولكن قد يدخلها بعد أن يغفر الله له ذنوبه بلا حساب ولا عقاب، وخاصة من مات شهيداً، ومن مات ودفن في البقيع، وخاصة من عده الله تعالى من السبعين ألفاً الناجين من عذاب الله، وفضل الله كبير، وقد يدخل النار مدة الله أعلم بها، فيعذب على ما صدر منه، ثم يدخل الجنة، وهؤلاء يسمون في الجنة بالجهنميين زمناً، ثم يرفع الله عنهم تلك الصفة، وذلك بأن يستبقي أثر الحريق في جباههم، وفي بعض جلودهم، فينعتون من أهل الجنة القدامى بقول: هذا جهنمي، وهؤلاء جهنميون، فيتألمون بذلك، فيدعون الله تعالى أن يرفع عنهم ذلك لكي لا يعرفوا؛ فيزيل ذلك عنهم ويختلطوا بغيرهم من المؤمنين الساكنين في الجنة.
ومن المعلوم بالضرورة: أن النار سيدخلها الكافرون خالدين مخلدين فيها أبداً، وسيدخلها بعض عصاة المسلمين والله أعلم بهم، ولكنهم لا يخلدون، فسيدخلون النار زمناً حسب الذنوب، ثم يخرجون بعد ذلك، وآخر من يدخل الجنة من أهل النار من الموحدين رجل يكثر الدعاء والتضرع على ربه، ويعيش في ذلك زمناً طويلاً وجسمه قد احترق، فيقول: يا رب! جعلتني مع هؤلاء المشركين بك، والله ما أشركت بك يوماً، فائذن لي أن أخرج من النار، ولا أطلب منك شيئاً بعد ذلك، فيقال له: أتعطي العهود والمواثيق على أن تكتفي بذلك؟! فيعطي المواثيق والعهود، فيخرج من النار، فيسمع نعيم الجنة من بعيد، فيتضرع إلى الله، ويأخذ في الدعاء أن يذهب به إلى باب الجنة ليتمتع بنعيمها على بعد، فيقول له الرب: ألست قد عاهدت وأقسمت ألا تطلب غير ما أخذت من خروجك من النار؟ يقول: يا رب، فيستجيب له، ويأخذه إلى باب الجنة، فيزداد طمعه، وهكذا يدعو ويبكي ويتذلل، فيقول: يا رب! أدخلني جنتك، لا تجعلني أذل القوم وأبعدهم، وأنا الذي لم أكفر بك يوماً، وإذا بالله الكريم يقول له: تمنّ تعط، فيقول: أريد قصراً، أريد حورية أريد أريد ويوسع الخيال في إرادته، فيقول الله له: لك ما طلبت وعشرة أمثاله، فإذا به يقول: أتسخر مني وأنت رب العالمين؟! فيضحك الله ويستجيب له، ويدخله الجنة، ويعطيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقد روى هذا الحديث سيد التابعين الحسن البصري فقال: يا رب! اجعلني أنا هو، وكل رجائي أن تدخلني الجنة، وهكذا هؤلاء الكرام من السلف الصالح، ينتقصون أنفسهم، ويزداد خوفهم من ربهم، ويطلبون أقل شيء، ولكن الله الكريم عنده ما هو أكثر وأعظم، فالطمع قبيح من الإنسان، ولكن في الله ومن الله مطلوب أن نطمع في رحمته، ونرجوه ونضرع إليه، فذلك مقبول، والإلحاح غير مقبول من الإنسان إلى الإنسان، ولكن الله جل جلاله يحب من يلح عليه بالسؤال، ويكثر من الدعاء، بل قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليحب من عبده أن يطلب منه حتى ملح طعامه، وحتى شسع نعله) انقطع شسع النعل فأصبح يمشي حافياً يقول: يا رب! سشع النعل انقطع، لا أستطيع أن أمشي على نعل واحدة، إذا أراد الطعام وهو بلا ملح يقول: يا رب! ليس عندي ملح، ولم أجد ملحاً.
أعطني ملحاً، وهكذا الله جل جلاله، هو خالقنا ورازقنا وربنا، مهما طلبنا منه هذه الأشياء قلت أو صغرت أو كثرت، إلا والله يريد ذلك، ويحضنا عليه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دعاء، والدعاء مخ العبادة؛ لأن في معنى الدعاء أنه يقول: يا رب! أنا عاجز، والبشر عاجزون عن أن يعطوا، وهم يطلبون العطاء، ولكنك صاحب العطية، والمكرم، ولكنك الرازق والمعطي، فأنا أطلب منك، ولا أطلب من غيرك.
فمن هنا يقول في الحديث القدسي: (فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
والله إذا أراد أن يحرك قلوب عباده، يكون لهم بما لا يخطر لهم على بال، وهكذا التقوى تأتي بالرزق والعلم، والتقوى فيها كل الخيرات والفضائل، أكرمنا الله بها، وأدامنا عليها إلى لقائه.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٨].
كثيراً ما يقرن الله في كتابه بين ذكر نبينا وموسى عليهما السلام؛ لأن موسى كان من أنبياء الله ورسله، ومن أولي العزم، وقد لقي من قومه من العنت والجحود في مصر مع اضطهاد وقهر فرعون وملئه إلى أن أنقذهم موسى وهارون من فرعون، وخرج بهم عن مملكته، ثم لقي منهم بعد ذلك جحوداً وكفراناً، ونبينا عليه الصلاة والسلام لقي من قومه العنت والجحود، وكانت مقارنتهما تعطي نبينا السلوى.