تفسير قوله تعالى: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا)
قال تعالى: ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ [الأنبياء: ٦١].
حضر إبراهيم وإذا بهم يسألونه: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٦٢].
سألوه وكان من تمام الدعوة أن يحضر الناس من كل فج عميق ليشهدوا هذا، ولتكون المعجزة، ولتكون الدعوة إلى الله من إبراهيم كاملة يحضرها القوم، كما جمع فرعون السحرة والناس من البلاد قاصيها ودانيها؛ ليشهدوا ذله وخسارته، وإيمان السحرة بموسى.
وهكذا هنا النمرود طلب أن يحضر الناس ليشهدوا عقوبته، ويشهدوا عمله، ويكونوا مع ذلك مقتنعين بما يريد أن يصنعه به، ولكن ذلك كان من السر الإلهي، وهو: أن تكون دعوة إبراهيم أمام هذا الملأ من الناس، ليبين ضعف أصنامهم ويعترف بأنه كسرها وقطعها، وإذا بالله الكريم ينصره على الجميع.
ثم إن إبراهيم أراد أن يستخرج الحجة على فساد وبطلان آلهتهم منهم، وهذا في المحاورة والمذاكرة من أبلغ القول في إثبات الحجة بأن ينطق بها الخصم فتلزمه بها.
﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣] وهو قد جعل الفأس في عنق الكبير، ومعناه: أنهم أحضروه في مكان الأصنام وهي مكسرة قطعاً وجذاذاً، والصنم الكبير في عنقه الفأس، قال إبراهيم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣] لقد قال هذا القول وكما قلنا غير مرة: وجود الشرط لا يلزم منه الوقوع.
نعم هذا الذي فعل فاسألوه إن كان ينطق، واسألوا مَن كُسر منها إن كانت تنطق.
قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: كذبتين في ذات الله، وكذبة من أجل سارة، أما الكذبة الأولى فهي هذه كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء: ٦٣]).
والكذبة الثانية عندما ذهبوا لعيدهم وأتوه وقالوا له: يا إبراهيم! اذهب معنا وكانوا قد خافوا على آلهتهم وأصنامهم منه، فذهب قليلاً ثم توقف وقال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] إني مريض لا أستطيع الذهاب معكم، ولا يحملني بدني، فرجع ليبيت الأصنام ما عزم عليه.
والثالثة: عندما هاجر من العراق إلى الشام، ثم إلى مصر، وعاد للشام، كان جبار مصر لا يكاد يسمع بامرأة حسناء إلا ويطلبها للفاحشة، فقيل لجبار مصر: رجل جاء من العراق معه أجمل النساء، فأرسل إليه وقال: من هذه منك؟ قال: أختي.
قال: دعها عندي.
وإذا بالجبار أراد أن يمسها فرآها بين عينيه ثوراً يكاد يفترسه، وشلت يده عندما حاول أن يمسها، وانزعج، ودارت به الأرض، حاول ثانية فوقع له مثل ذلك، وثالثة فوقع له مثل ذلك، وإذا بالجبار يقول لإبراهيم: ما هذه بإنسان ولكنها شيطان، أبعدوها عني.
وفي حديث الشفاعة أيضاً عندما تأتي الأمم تمر على الأنبياء وقد اشتد بهم الكرب حال العرض على الله، فيأتون إلى إبراهيم فيقول: (نفسي نفسي، لقد كذبت كذبات لا أدري ما سيفعل الله بي منها).
هذه كذبات في اللفظ، وليست كذبات في نفس الأمر، وهي من النوع الذي يقول عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب).
فمثلاً: سئل ﷺ وهو مهاجر من مكة إلى المدينة وقد نذرت قريش: أن من أتى به حياً أو ميتاً فله مائة من الإبل، دية قتيل.
وإذا به يخرج في وجهه أعراب فيسألونه من أين أنت؟ فيقول: (من ماء) وماء كانت قبيلة من قبائل العرب.
والنبي لا يقصد أنه من القبيلة، فهو هاشمي قرشي، ولكنه خدعهم، والحرب خدعة، والنبي في حرب عليه الصلاة والسلام، فعرض في كلامه، وهم فهموا أنه من قبائل ماء، وهو يقصد أنه خلق من ماء دافق كما يخلق كل إنسان.
والنبي عليه الصلاة والسلام يصنع ذلك ويأمر به لمن اضطر ألا يقول الحقيقة؛ لكيلا يستغلها الأعداء فيصلوا إليه بعداوتهم، وكان هذا فعل إبراهيم عندما قال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣].
فهو أراد ذلك، وقد قال رسول الله: (كان ذلك في ذات الله) عليهما جميعاً الصلاة والسلام، فهو قصده من ذلك أن يأخذ الحجة منهم في ذاتهم.
﴿إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣] فنقول إنهم آلهة على الأقل في المناظرة، وإن كانوا حقاً فسينطقون، ويدافعون عن أنفسهم، أراد عندما يقولون ذلك أن يلزمهم: كيف تعبدون أحجاراً لا تضر ولا تنفع، ولم تدفع عن نفسها هذا القطع والكسر، ولم تستطع النطق وتكشف من فعل بها ذلك؟ فإذا قالوا ذلك قال لهم: وكيف تعبدون ما لا يضر ولا ينفع؟! وهذا الذي سيحدث عندما قال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] وليس إنسان في الأرض إلا وفيه نوع من أنواع السقم، لو جاء طبيب وحاول أن يفحصنا جميعاً ولا بد وأن يجد في كل واحد منا شيئاً من المرض منذ الولادة، منذ الطفولة فهو سقيم، ولو لم يكن سقيماً تلك الساعة سيسقم بعد، وهذه صفة الإنسان التي فطر عليها منذ الولادة.
أما الثالثة فقوله: هذه أختي، فقد قال لها: أنت أختي في التوحيد والإيمان، وأخيراً أخته في البشرية، كلنا من آدم وحواء، فنحن البشر جميعاً إخوة بعضنا لبعض.
فإذاً: هي كذبات باعتبارها معاريض، وليست كذبات في واقع الأمر، وهذا هو الذي أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول، وأما قول إبراهيم عن نفسه في يوم الشفاعة العظمى فذلك هضم لنفسه وتواضع.
وقد رأى من نفسه هناك من هو أهم منه لأن يقوم بهذه الشفاعة، وهو يعني بذلك نبي الله عليه الصلاة والسلام الذي عندما أسكن إسماعيل وأمه في هذه الأرض المقدسة دعا الله تعالى أن يبعث لهذه الأمة -العرب- نبياً منهم بشيراً ونذيراً، يعلمهم آياته، ويرشدهم إلى هدايته، وقد كان كل ذلك.
﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣] وهو بذلك أراد إعجازهم وأخذ الحجة منهم، وكما قال: ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٤].


الصفحة التالية
Icon