تفسير قوله تعالى: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له)
قال تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: ٧٦].
أي: يا محمد! كما ذكرنا لك إبراهيم جدك، وإسحاق عمك، ويعقوب ابن عمك، ولوطاً، اذكر كذلك نوحاً؛ فإنه كان كذلك من عباد الله الصالحين، ومن المصطفين الأخيار.
قوله: ﴿وَنُوحًا﴾ [الأنبياء: ٧٦] أي: اذكر نوحاً، وتصور حاله.
وكل هذا أوحى الله به إلى نبيه ليثبت به فؤاده؛ لما لاقاه من قومه من جحود وعناد وكفران، فهو يقول له: لست بدعاً من الرسل، وقد سبق أن الرسل قبلك أوذوا وظلموا، وتمرد عليهم أقوامهم وأتباعهم، ومع ذلك صبروا وصمدوا فكانت العاقبة لهم، وكان الخسران لعدوهم، كذلك اصبر فإن العاقبة لك كما كانت للأنبياء قبلك، وإن أعداءك سيسحقون، ولكن لا بد من الصبر.
وهكذا الله أمر نبيه وأمر أتباعه كذلك؛ ولذلك ذكر الصبر عشرات المرات في القرآن الكريم، وخصه الله بسورة العصر التي قال عنها الإمام الشافعي: لو عمل بها المسلم لكفته.
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ١ - ٣].
الصبر في الدعوة، والصبر في العبادة، والصبر في ترك المنكرات، والصبر على المأوى والشدائد إلى لقاء الله، فمن صبر نصر، وكانت العاقبة له.
قال تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: ٧٦] اذكر نوحاً إذ نادى أي: نادانا وتضرع إلينا، ودعانا لنصرته.
﴿إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنبياء: ٧٦] أي: قبل هؤلاء جميعاً، إذ نوح هو الأب الثاني للبشر بعد آدم، إذ الطوفان قد عم كل الأرض فأصبح من على وجه الأرض بعد نوح أولاد له، وللقلة القليلة التي آمنت معه وركبت السفينة، فكان بينه وبين آدم -زعموا- ألف سنة، وليس هناك شيء يؤكد ذلك من كتاب الله أو سنة رسوله، وقد قيل: إن إدريس سبقه، ولكن الجماهير على أن إدريس كان بعده.
قوله: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنبياء: ٧٦] أي: من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط، وكان أقدمهم وجوداً وحياة وعصراً.
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ﴾ [الأنبياء: ٧٦] أي: أجبناه لرغبته، وهو ينادي ويضرع إلينا، ولمكان النداء والدعاء ولمكانة الضراعة، استجيب له؛ لأن نوحاً كانت نبوءته في قومه أفضل النبوءات على الإطلاق، لبث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولقي من الشدائد والعظائم والإيذاء ما لم ينله أحد من الأنبياء قط؛ لأنه طال الزمن وهو صامد صمود الجبال.
وبعد هذه المدة الطويلة ما عاد يستطيع الصبر أكثر؛ فأخذ يدعو على قومه أن ينجيه الله منهم، وأن ينتقم منهم، فقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧] نادى: يا رب! إني مغلوب فانتصر، وإذا بالله الكريم يستجيب له بعد المدة الطويلة.
وهكذا أدب الدعوة، أن الإنسان عندما ينادي ربه ويدعوه لا يقول: لم يستجب لي؛ لأنه مضت سنة أو سنتان أو شهر أو شهران ولم يستجب، فيستجاب لك إن قدر لك ذلك، وكان في صالحك، وقد تكون الاستجابة ليست في صالحك، ولكن الأمر يكون حسب إرادة الله في الوقت المناسب، وفي الأصلح لك.
وهكذا رأينا يوسف بعده، بعد أن تآمر عليه إخوته، وبعد أن بيع عبداً وقذف به في بئر، وبعد أن اتهم بما اتهم، وبعد أن رمي في السجن سنوات، بعد كل ذلك بأربعين سنة استجاب الله له فيما بشره به في الرؤيا الصالحة: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] ففهمها أبوه يعقوب وقال: ﴿يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ [يوسف: ٥].
وهكذا كل نبي له قصة مع قومه، وقد عرضها الله بالتوالي منجمة خلال ثلاث وعشرين سنة على عبده وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ ليتأسى بذلك، وليتعزى بذلك، وليجد قوة في تجديد طاقاته على الدعوة والصبر على إيذاء قومه، وأن النهاية له بالنصر والغلبة على الأعداء، تثبيتاً للدعاة من أتباعه فيما مضى، وفيما حضر، وفيما هو آت إلى يوم القيامة، وهذه فائدة التاريخ، أنه يثبت القلوب ويعطي الإنسان قوة، ويجعله يعيش مع أقوام بينه وبينهم آلاف السنين، فيرى ما أدركوه وما قاسوه، وماذا جرى لهم.
وكانت النتيجة: أن نصرهم الله، وفازوا بالربح، وفازوا بالرحمة، وآب أعداؤهم بالذل والخسران المبين.
فقوله: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنبياء: ٧٦] أي: نادى قبل هؤلاء الأنبياء، فاستجبنا له، فأجابه الله في دعائه وندائه عندما صبر عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فأغرقهم أجمعين، ودمرهم أجمعين وكأنههم لم يكونوا.
وابتدأ نوح حياة جديدة بين هذه القلة الصالحة من أتباعه، وهكذا تجددت الدنيا، وتكاثر الأولاد والذرية، وخلد نوح كما خلد الأنبياء قبله وبعده.
قوله: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: ٧٦] نجاه مع أهله وأتباعه، وخرج عن أهله وولده؛ لأنه كان عمله غير صالح، وأبى إلا الإصرار على الكفر حتى وقت الطوفان، ونزول الأمطار من السماء، وتفجير الأرض، ودعاه أبوه: اركب معنا! أي: آمن لتركب معنا قال: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ [هود: ٤٣].
يرى البلاء بعينيه ويسمعه بأذنه، ويأبى إلا الإصرار وهكذا الخذلان عندما تطبع القلوب باللعنة والطرد من الرحمة، وحتى لا يعتمد الإنسان على أبيه وجده وحسبه ونسبه، فهذا ابن نبي عاش معه هذه المدة الطويلة، ولكنه ما استطاع أن ينفعه بقليل ولا بكثير.
وهكذا كان يقول نبينا عليه الصلاة والسلام، وينادي زوجاته وأحفاده، وينادي بني هاشم: إياكم أن تأتوني تحملون على أكتافكم البعير والناقة وكذا وكذا، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، فلا ينفع مع الشرك شيء، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨].
فإن كانت هناك منفعة ففي الدنيا، بحيث يدعو النبي أو يدعو الصالح للإنسان الفاجر مادام حياً، فقد يستجاب له فيؤمن وتسبقه الهداية، كما دعا النبي عليه الصلاة والسلام ورجا من الله فقال: (اللهم اهد أحب العمرين إليك) فاستجاب الله دعاءه في عمر بن الخطاب؛ لأن عمر حتى في شدة كفره لم يستهزئ ولا سخر.
أما المستهزئون الذين قال الله عنهم لنبيه: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: ٩٥] لقد قال ابن تيمية: ما استهزأ أحد برسول الله في حياته أو بعد مماته إلا وختم الله له بسوء الخاتمة، لا تنفعه دعواه، ولا ينفعه شيء من عمله، لا صدقات ولا غيرها.
فاستجاب الله دعوة نبينا في عمر بن الخطاب لأنه يكن من المستهزئين، وختم على أبي جهل بسوء الخاتمة والقتل والذل في بدر.