تفسير قوله تعالى: (ففهمناها سليمان)
قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩].
بماذا حكم داود؟ قال: تعطي الغنم هذا الذي أكلت حرثه مقابل الخسارة التي خسرها في أرضه، والغنم كانت هي البديل والثمن، وكان سليمان ابن أحد عشر عاماً، فخرج المدعي والمدعى عليه على الولد وكان في باب محكمة أبيه، فسألهما عن حكم نبي الله داود؟ قالا: حكم أن الغنم لصاحب المزرعة مقابل خسارته قال: لو حكم بغير هذا كان أرفق له.
فبلغت أباه هذه الكلمة فأرسل خلفه قال: بحق النبوة والبنوة -وكان نبياً- ما هذا الأرفق في الحكم الذي هو خلاف حكمي؟ قال: لو استحكمت لحكمت بغير هذا قال: بماذا تحكم؟ قال: أحكم بأن الغنم يأخذها من رعي زرعه، فتبقى عنده يستفيد من صوفها وألبانها ومن نسلها ومنافعها، وتسلم الأرض التي أكل زرعها لصاحب الغنم فيعتني بها ويجدد كرمها وزراعتها إلى أن يتم الزرع ويعود كما كان، ثم تعود المزرعة إلى صاحب الأرض، وتعود الغنم لصاحبها.
وإذ بداود يقول: الحكم ما حكم، ورجع عن حكمه إلى حكم ولده، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] حكم داود وحكم سليمان، ولكن الله تعالى أثنى على حكم الولد سليمان وجعله هو الفهم، وأن الله هو الذي ألهمه هذا الفهم، ولكنه لم يعد لحكم داود، وقال بعد ذلك: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩] أثنى على سليمان وداود، ولم يعنف داود ولم يرد حكمه، وأخبر أنه قد أتاهم من الحكمة والنبوءة ومن العلم معاً، ولكنه قال: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩].
وهنا وقفات: أولاً: حكم سليمان وحكم داود في قضية واحدة كانا متغيرين، وهنا قال علماؤنا وفقهاؤنا: هل الحق يتعدد أو لا يتعدد؟ الجمهور على أن الحق واحد لا يتعدد، واحتجوا بهذه الآية مع غيرها، ودعنا نبقى مع الآية.
الله أثنى عليهم معاً؟ نعم، ولكن جعل فهم الحكم للولد سليمان، وليس للأب، وأثنى على الأب وأنه آتاه الحكم؛ لأن داود حكم باجتهاده ولم يأل أن يحكم إلا بما أداه إليه اجتهاده، والمجتهد بعد بذله الجهد مأجور مثاب حتى مع خطئه، وهنا اختلف علماء الكلام أيجتهد النبي أو لا يجتهد؟ وإذا اجتهد هل يخطئ أو لا يخطئ؟ فحكم سليمان حكماً، وحكم داود حكماً، ونقضه سليمان، وعاد داود إلى حكم ولده، ولا شك أنه لو كان الحكم الذي حكم به داود عن وحي لما قال الله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] ولكان داود قد نفذ وحياً، وبما أن الله قال (ففهمناها سليمان) ولم يقل إنه فهمها داود كان ذلك دليلاً على أن داود حكم باجتهاده.
وهل النبي المجتهد يخطئ؟ نعم يخطئ، ولكن الفرق بينه وبين غيره: أن خطأ النبي في الاجتهاد لا يقره الله عليه، كما فعل ربنا، حيث قال عن الولد سيلمان: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] وفي ضمن ذلك أن داود لم يوفق للحكم، لكن مع ذلك هو مثاب مأجور؛ لأنه بذل من نفسه الجهد بما يستطيع.
الوقفة الثالثة: هل للحاكم أن يعود في الحكم بعد أن ظهر خطأ ما حكم به في الأول؟ إن كان لا يزال هو الحاكم فله أن يرجع إلى الحق، والرجوع للحق فضيلة، أما إذا مات القاضي أو عزل فالقاضي الذي يأتي بعده لا حق له في نقض الحكم إن كان مبنياً على الاجتهاد، أما إن كان اجتهاده مخالفاً لنص من كتاب أو سنة فلا حرمة لهذا الحكم.
أما إن كان عن اجتهاد بلا نص، فحكمه يبقى كما هو ولا رجوع فيه إلا من القاضي نفسه إذا بقي في الحكم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وليس الأجر على الخطأ هيهات! وإنما الأجر على الاجتهاد: الأول له أجران: أجر في الاجتهاد وأجر في الإصابة التي وفق إليها.
والثاني له أجر على اجتهاده: أما الحق فلم يوفق إليه، ولكنه لا يلام؛ لأنه بذل جهده، ومقدار قدرته، فهو مأجور على ما بذل من نفسه بالوصول إلى الحق حسب اجتهاده، وفي شريعتنا ما يؤكد هذا بقصتين كلتيهما في الصحيح حدثتا في الاجتهاد المختلف من الأصحاب في الحياة النبوية: القصة الأولى: كان هناك صحابيان في فلاة من الأرض، فدخل وقت الصلاة، فبحثا عن الماء فلما يجدا، فتيمما وصليا قبل خروج الوقت، ثم وجدا الماء فتوضأ أحدهما وأعاد الصلاة، أما الثاني فلم يصل قال: أنا قد صليت والفريضة لا تكرر مرتين في اليوم ولا في الوقت، فقال عليه الصلاة والسلام لمن لم يعد الصلاة: (أصبت السنة) وقال للآخر: (لك الأجر مرتين) من المخطئ ومن المصيب؟ لا شك أن المصيب من قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أصبت السنة) ولم يقل للآخر: (أصبت السنة) وإنما قال له: (لك أجرك مرتين) لأنه صلى صلاتين، الصلاة الأولى أجر عليها وأداها، وهي الفريضة، والصلاة الثانية كانت اجتهاداً، فله أجر الاجتهاد.
أما المصيب فله الأجر مضاعفاً، أجر الفريضة وأجر إصابته السنة، وإن كان اجتهاده سلبياً، ولكنه اجتهاد على أي حال، فله أجر بالاجتهاد، وأجر بإصابة الحق.
القصة الثانية: لما انتهى النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة الأحزاب جاءه جبريل ودخل عليه فقال له: أنزعت لأمة الحرب؟! أما نحن فلم ننزعها -يعني: الملائكة- وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يدعو النفير إلى يهود بني قريظة الذين جاءوا من خلفه يريدون أن يحاربوه من الداخل مع غطفان وقريش.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) وكان هذا بعد الظهر، وإذا بالقوم بعضهم أدركته الصلاة فصلى في الطريق قبل الوصول إلى بني قريظة، وبعضهم لم يصل الصلاة إلا في بني قريظة، وبعضهم ما صلاها إلا بعد المغرب.
فحضر رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يعنف أحداً، لا من صلى في الطريق ولا من أخر الصلاة إلى بني قريظة، وأقر اجتهادهم جميعاً.
وهذا يعني أن الحق يتعدد، والحقيقة أنه لا يتعدد، والأجر لا يكون على الخطأ وإنما يكون على الاجتهاد، وسكوت النبي عليه الصلاة والسلام دليل على أن كل واحد من هؤلاء الذين اختلفوا اجتهد وبذل جهده، فلا يعنف بل يشكر ويثاب.
وفي هذه القصة كيف فهم القوم النص؟ وهذا اجتهاد في فهم النص لا في النص، فالبعض فهم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) أن معناه أن يبذل كل ممكن ليصل إلى بني قريظة في أسرع وقت، فصلوا في الطريق مسرعين، وآخرون كانوا ظاهريين مثل الظاهرية، فقالوا: لا نصلي الصلاة إلا في بني قريظة حتى ولو وصلنا وقت الفجر.
وقد قال ابن حزم بعدهم في القرن الخامس: لو كنت حياً ولم أصل إلى بني قريظة إلا بعد سنة لما صليتها إلا بعد سنة، لشدة تمسكه بالظاهر، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يعنف أحداً، والمحق هو من صلاها في الطريق واستعجل بها؛ لأنه كسب شيئين، أطاع النبي عليه الصلاة والسلام في الإسراع إلى بني قريظة، ولم يؤخر العصر عن وقتها، ولم يأت أمر بذلك، بل صلاة العصر مشدد فيها جداً، والعصر هي الصلاة الوسطى كما في صحيح مسلم، وقال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) وقال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله) وهذا تهديد ووعيد.
ومن هنا كان المجتهد في فهم النص أو فيما لا نص فيه مثاباً على كل حال، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر مقابل الاجتهاد.