تفسير قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك)
قال تعالى: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ [الكهف: ٢٧].
يخاطب الله أشرف عبيده، وكأنه يقول له: دع عنك اليهود والمشركين وأعداء الله، واقرأ ما أوحى الله إليك من كتاب، واعتنِ بهذا القرآن تالياً وقارئاً وحاكماً، وآمراً وناهياً، أحل حلاله وحرم حرامه، صدق بقصصه واعمل بموجبه، ولا تدعه أبداً، فهو الحق: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢].
فاقرأ كتاب ربك لتكون معانيه وحقائقه لازمة لك، استحضرها دوماً واعلم أن ما أخبرك به هذا الكتاب هو الحق، وما أثبته فهو الحق، وما لم يقله فهو الباطل، وما لم يزكه فهو الباطل.
فإياك أن تأخذ الحقائق عن أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا وتلاعبوا، وزادوا في دين الله ما ليس فيه، ونقصوا منه ما فيه.
وقد كان أحب شيء لرسول الله تلاوة القرآن، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتلو القرآن في كل أحواله، يصلي بالمسلمين بالقرآن، ويتهجد به في أول الليل ثم ينام، ثم يتلو ثم ينام ثم يقوم في الثلث الأخير من الليل، نافلةً له.
فكان التهجد في حق المسلمين سنة مستحبه، وفي حق رسول الله ﷺ واجباً عينياً.
فكان وهو يتهجد يتلو القرآن، فيتذكر معانيه، ولا ينساها عليه الصلاة والسلام، بل كان يزداد لها ذكراً وعملاً، وتعليماً ونشراً لدين الله.
ومن هنا كان يقول عليه الصلاة والسلام (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأدها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع).
أما القرآن فقد رواه أطباق المسلمين، عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل من الصدور والسطور، وبذلك لم يتغير فيه كلمة ولا حركة ولا آية.
وكذلك كانت السنة في الدرجة الثانية، إذ سمع عن رسول الله ﷺ الرواة والحفاظ من الصحابة والتابعين، بضبط الكلمة، وبشرح معناها، وتأكيد لفظها، ولذلك كان يقول: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها)، أي: حفظها أولاً: (فأدها كما سمعها)، حتى إذا سمع ولم يفهم، فسيأتي من يفهمها، (فرب مبلغ أوعى من سامع).
قال تعالى: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الكهف: ٢٧].
هذا الكتاب الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كلماته لم تغير ولم يتلاعب بها كما حدث في التوراة والإنجيل، وذاك قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
فقد مضى على القرآن أربعة عشر قرناً من التاريخ ولم يعتره التحريف، وهذا أصدق دليل وأكبر معجزة، ومن هنا كان القرآن الكريم هو المعجزة المستمرة الدائمة في صدق رسول الله عليه أزكى الصلوات وأفضل التسليم.
فقوله: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الكهف: ٢٧].
أي: لا مبدل لها لفظاً، ولا مبدل لها معنىً، مهما تلاعب المبتدعة من الفرق الضالة في تحريف معنى القرآن والتلاعب به، فإنه سيبقى من أكرمهم الله بعلمه، ومعرفته، فمع بيان رسول الله له، ومع السنة المطهرة المفسرة الشارحة، بقي القرآن بمعانيه وبألفاظه، لم يغير ولم يبدل.
ومهما حاول أن يبدل المبدلون في المعاني، سيبقى ذلك الكلام مضروباً به وجوههم، دالاً على بدعتهم، بل دالاً أحياناً على كفرهم.
قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ [الكهف: ٢٧].
أصل الإلحاد: الميل، فقوله: ﴿وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ﴾ [الكهف: ٢٧]، أي: من دون الله ومن دون كتابه، والكل بمعنى، و (لن) لنفي التأبيد، أي: لن تجد مرجعاً ولن تجد من تحيد إليه وتستغيث به، إلا الله جل جلاله، وكتابه هو الذي يدلكم على ما أحل وعلى ما حرم، وعلى أنباء السابقين لرسل الله وأنبيائه المقربين.
فلا ملجأ منه إلا إليه جل جلاله، وكتابه هو الحاكم وهو المعلم، وهو الهادي المرشد، أنزله الله لنا، ليكون رفيقاً في المكتب والمدرسة، وحاكماً في المحكمة، ومؤدباً في الشارع، وموجهاً للأسرة، والحاكم بيننا وبين الأحباب، وبيننا وبين الأعداء.
فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الجد ليس بالهزل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، وما حكم به إمام إلا وهداه الله.


الصفحة التالية
Icon