تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره)
قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨١].
المعنى: وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، شديدة الهبوب، تجري وتتحرك وتتنقل بأمره كما يريد ﴿إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: ٨١].
بكل بقعة من بقاع الأرض، والغاية والبداية التي باركنا فيها هي أرض الشام حيث سليمان، سخر الله له الريح العاصفة أي: الشديدة، وفيه آية أخرى: ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: ٣٦]، والرخاء: اللينة، ومعنى ذلك: أنها تكون عاصفة عندما يريد حسب أمره وإرادته، وتكون لينة رخاء عندما يريد ذلك ويراه من المصلحة، وكيف كان فهذا هو الطيران الذي نراه الآن، سخر الله ذلك لسليمان قبل أن يخطر هذا على خاطر بشر، وكان يأتي إلى بساط صنعه الجن ونسجوه، قالوا: كان عرضه فراسخ وطوله فراسخ، فكان ينتقل فوقه بسلاحه وبجيوشه ومؤنته، وبما يحتاج إليه، وينتقل إليه مسافة شهر ذهاباً وإياباً، والريح التي تنقله حسب ما يراه، إن كانت المسافة والغاية بعيدة تكون الريح عاصفة، شديدة، قوية، وإن كان المكان قريباً تكون رخاء لينة.
وهذه الريح التي سخرها الله لسليمان هو ما سخر لنا في عصر الطائرة، فإنه لو وقف الهواء لسقطت، وهي تجري في الريح، وإذا وصلت إلى الغلاف الجوي من السماء لما أمكن نزولها إلا بآلات وصنعة جديدة، وقد تفجر وتبقى قطعها ضائعة في الهواء حيث لا ثقل للأبدان.
وهذا البساط مصنوع قيل: صنع من خشب، ومن سود، فالطائرات صنعت من خشب، وصنعت من سود، وصنعت من حديد، وصنعت من أنواع أخرى، ولولا الهواء الذي سخره الله لما طارت الطائرات، ولكن هذا كان في عصر سليمان معجزة؛ لأنه لم يصنع له شيئاً، ولم يعد له شيئاً، فكان معجزة لسليمان من الله، صنعها الله له، وقديماً قال أحد العلماء العارفين من المشاهير: لا تقوم الساعة حتى لا تبقى معجزة من المعجزات التي ذكرها الله للأنبياء إلا وتصبح شيئاً عادياً، لأن النبوات انتهت، ولا حاجة إلى معجزات إلا إذا كانت كرامات، والكرامات لا يتحدى بها، وآخر الأنبياء نبينا عليه الصلاة والسلام، فمعجزته الخالدة الدائمة هي هذا الكتاب العظيم الكريم، فكونه لم يغير ولم يبدل، وكونه أعجز البشر عن الإتيان بمثله لفظاً وعبارة، وأعجزهم عن الإتيان بمثله بما فيه من علوم ومعارف صادقت العلم قديماً وحديثاً، حذو القذة بالقذة، فلم تبق هناك حاجة إلى معجزة، وإنما تقع كرامة الأولياء، ولكن لا تحدي فيها، وهذا الفرق بين المعجزة والكرامة، المعجزة أتت من الأنبياء للإعجاز والتحدي، والكرامة لا يتحدى بها.
من هنا يقول: ما كان معجزة لن تنتهي الدنيا حتى يصبح شيئاً عادياً، ومن ذلك بساط سليمان، فنحن نطير الآن من قارة إلى قارة، بما لم يكد يخطر على بال الإنسان قبل أن يكون ذلك، لو رأى الطائرات آباؤنا وأجدادنا قد يصابون بمس في العقول، ويظنونها أولاً طائراً، فإذا أتوا إليها ورأوها حديداً وخشباً لم يقبلها تصورهم ألبتة، ونحن إنما قبلناها لأننا رأيناها وركبنا فيها، وامتطيناها، ورآها الجميع، ومنكرها يكون مجنوناً، هذا ما قال الله لنا: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ﴾ [فصلت: ٥٣]، وهذه منها، وهذه كانت معجزة والآن شيئاً عادياً.
من ذلك، أيضاً قصة سليمان عندما جاءه الهدهد، فأخبره أنه رأى قوماً معتكفين على عبادة الشمس، ولا يؤمنون بالله، وإذا به يأمر الجن: أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٣٩ - ٤٠]، أي: قبل أن تتحرك أجفانك يكون أمامك، وقد كان، فقيل لها: ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ [النمل: ٤٢] وعندما دخلت الصرح كشفت عن ساقها وحسبته لجة، واضطرت للإيمان بالله إله سليمان.
هذا الذي حكاه الله أيضاً معجزة، إن بين صنعاء وأرض الشام آلاف الكيلو مترات، لكن الصواريخ اليوم والطيران الذي وصل إلى الأعالي يقطع هذا في لحظات، وليس ذلك معجزة، والذي يصنعها ليس مؤمناً، وهذا تأكيد للمعنى الذي قاله هذا العالم، وكان قد ذكر ذلك ولم يذكر أمثلة؛ لأن الأمثلة لم تكن بعد، قال: (لا تقوم الساعة حتى يصبح ما كان معجزة أمراً عادياً).
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨١] بعلمه كان ذلك، بإذنه كان ذلك، وبتسخيره جل جلاله كان ذلك.