تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر)
ذكر الله لنا الأنبياء الماضين آدم ونوحاً وموسى وهارون وداود وسليمان، وسنذكر أيوب وذا النون وزكريا، ثم مريم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن هنا سميت السورة بسورة الأنبياء.
قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣ - ٨٤].
هاتان الآيتان في قصة أيوب مختصرة، وقد مضت قبل، وأيوب هو نبي الله ورسوله، ضُرب المثل بصبره على أنواع البلاء وقد كان يملك من الدنيا ما لا يملكه الملوك، وكان له من الزوجات والأولاد ما لا حصر له، وكان له من كل نعم الأرض الكثير والكثير، والله الفاعل المختار لا يسأل عما يفعل، وإذا به جل جلاله أراد أن يجعل من أيوب مثالاً للمبتلين، فأصابه في أمواله فذهبت وكأن لم تكن، ثم الأولاد والأهل جميعاً إلا امرأته، ثم ابتلي هو في جسده، ويقال بُلي بأنواع من الأمراض تساقط لها لحمه ورق عظمه إلى أن مله قومه ورموه على مزبلة، ولم يبق من المحيطين به إلا صديقان تابعان، وزوجته الحانية الوحيدة عليه.
طال بلاؤه سنوات، وهو في كل ذلك يحمد الله أن حفظ عليه لسانه يسبح الله ويمجده ويعظمه، وحفظ له قلبه ليبقى حاضراً في الذكر والعبادة لله.
طال البلاء فكانت زوجته تشتغل في البيوت لتأتيه بما يأكل، وامتنع الناس أن يعطوها، وإذا بيوم تأتي بظفائرها مقصوصة فقال لها: أين ظفائرك؟ قالت: بعتها لآتيك برغيف؛ فغضب في هذه الحالة عليها، وأقسم ليجلدنها مائة جلدة، فصبرت واحتسبت.
وذات يوم جاء هذان الصاحبان وكانا يترددان عليه، فقال أحدهما للآخر وأيوب يسمع وما كان يظنان أنه يسمع: هذا البلاء الذي أصاب الله به عبده أيوب لا شك أنه صنع معصية مع الله فعذّبه عليها بهذا البلاء.
فلما سمع ذلك آلمه أكثر مما هو فيه، وأخذ يجأر لربه: يا رب! لا أعلم أني ظلمت نفسي وأذنبت وأسأت، اللهم ارفع عني ما بي من ضر.
قوله: ﴿وَأَيُّوبَ﴾ [الأنبياء: ٨٣] أي: اذكر أيوب يا محمد إن كنت قد صبرت على بلاء قومك حين شتموك، وكسروا رباعيتك، ورجموك بالحجارة في قدميك، وهجروك ثلاث سنوات في مكة إلى أن أكلت الشجر والنبات، اذكر ما كان بأيوب ومع ذلك صبر، ماذا أدركت؟ وماذا ابتليت مما ابتلي به أيوب؟ كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وعزاء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله؛ ليأخذ من ذلك قوة وطاقة للبقاء باستمرار يدعو ويقاتل، ولا يبالي بأي بلاء بلي به.
وليبق أيوب مثالاً لكل مبتلى من المؤمنين؛ حتى لا تهتز عقيدته وإيمانه، ويعتقد أن الدنيا زائلة بما عليها وما فيها مهما كان، والعاقبة للمتقين.
سمع أيوب ما سمع فصاح: يا رب! اكشف ما بي من ضر قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣].
فأخذ أيوب ينادي ربه ويضرع على قدر ضعفه، ولكن كان لسانه لا يزال سليماً، وقلبه لا يزال حاضراً، فنادى ربه وتضرع إليه ودعاه: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣] فارحمني يا رب! وارفع ما بي يا رب!