تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل)
ثم عاد الله فذكر لنا ثلاثة أنبياء في نسق فقال: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٥].
أي: واذكر يا محمد إسماعيل بن إبراهيم جدك الأعلى، وإدريس جد نوح و ﴿وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٥] أي صبروا على البلاء، وإسماعيل قد مضت قصته في مريم، كما مضت قصة إدريس ونعيدها ملخصة.
إسماعيل بن إبراهيم الولد البكر لإبراهيم، ومصطفى أولاد إبراهيم، وسيد أولاد إبراهيم، ما فوقه إلا أبوه إبراهيم وابنه محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وهو ابن هاجر والد عرب الحجاز، إسماعيل الذي وهبه الله لإبراهيم على كبر من هاجر الحرة البتول، لا كما يقول بنو إسرائيل في أضاليلهم وأكاذيبهم إنها جارية ومملوكة، وسارة كانت ابنة عم إبراهيم، وكانت لها مكانتها؛ لأنها انفردت من النساء عند المحنة على إبراهيم عندما قُذف في النار، انفردت من بين النساء ممن آمن به؛ فبقي مكرماً لها، وكانت تتمنى هي الولادة قبل هاجر، فعندما ولدت هاجر وسبقتها غارت منها، وخاف إبراهيم على ولده إسماعيل؛ فأوحى الله إليه أن يأتي به إلى هذه البلاد المكرمة المقدّسة، وأتى به إلى مكان زمزم جاء به ومعه أمه، فجاءوا على البراق فتركهم وأراد الرجوع، فأخذت تصيح هاجر: إلى أين يا إبراهيم؟ فلم يجبها، إلى أين يا إبراهيم؟ فلم يجبها، وإذا بها تقول: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذاً لا يضيعنا الله.
ذهب إبراهيم وكانت هذه الأرض بلقعاً خراباً لا ساكن فيها، ولا ماء ولا طائر، ولا هوام ولا حشرات عطش الوليد وهو لا يزال في شهوره الأولى، فذهلت أمه وكادت أن تجن، فلا يوجد من تستشيره ولا من تستغيث به من البشر، فذهبت إلى المكان الذي هو الآن الصفا والمروة، ووقفت على تلة الصفا، وأخذت تلتفت يميناً وشمالاً هل ترى من أحد؟! ثم نزلت مهرولة إلى أن وصلت المروة، وهكذا فعلت سبع مرات، ومن هنا كان أصل السعي بين الصفا والمروة ذكرى لهذا اليوم العظيم، وهذا اليوم العطر المعجز إرهاصاً لنبينا عليه الصلاة والسلام قبل كونه بآلاف السنين.
عندما أتمت السبعة الأشواط -وهي على المروة- إذا بها ترى طيراً يحلّق على المكان الذي تركت فيه وليدها إسماعيل، وجاءت مهرولة وإذا بها تجد الماء عند قدميه؛ فإما أن جبريل ضربه بجناحه كما قالوا، أو الوليد إرهاصاً، وعلى عادة الأطفال تُحرك قدميها عند البكاء، وإذا بذلك التحريك يفجر الماء.
ثم جاءت ووجدت الماء قليلاً فخافت عليه أن يضيع وتتشربه الرمال، وأخذت تجمعه وتقول له: زم زم! أي: تجمع تجمع، ومن ذلك الوقت سمي زمزم، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لولا فعل هاجر للماء وقولها لها: زم زم لبقي نهراً سائحاً إلى يوم القيامة).
وهكذا القبائل المحيطة بأرض مكة رأت الطير فقالت: عهدنا بالطير لا يحلق إلا عند الماء ولا ماء هنا، فجاءوا فوجدوا الماء فاستأذنوها أن يشربوا معها، قالت لهم: لا مانع، فقالوا: هل نسكن معكِ؟ فقالت: لا مانع بشرط الماء لي، ولا يشركني فيه أحد قالوا: وافقنا، فوجدت بهم أنساً وبهجة وابتعاداً عن العزلة والوحشة، فكبر الولد وتزوج واستعرب، ومن هنا يقال: عرب مستعربة، لا أريد أن أحكي القصة بطولها فستأتي مرة أخرى تردد أبوه عليه وقد تزوج عربية من الجزيرة من الحجاز، جاء فلم يجده فسأل زوجته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب للصيد ليرتزق، سألها: كيف حالكِ؟ وكيف عيشتك؟ قالت: في شر عيشة قال: قولي لإسماعيل إذا جاء أن يغير عتبة بيته، جاء إسماعيل ليلاً وقد ذهب أبوه وعاد إلى الشام، جاء على البراق ورجع بالبراق وهو دابة الأنبياء، ووجد تغيراً في المنزل فسأل: هل حضر أحد؟ قالت: نعم.
قال: من؟ قالت: لا أعلم من هو، قال: ما صفته؟ فوصفته، فقال: ذاك أبي، ماذا قال لكِ؟ ومعنى (ذاك أبي) أنه كبر، وكان يتردد عليه ولا يعرف أباه لأنه لا يعرفه من زمن الطفولة وهو لا يزال رضيعاً في الأشهر الأولى، قالت: قال لي أقول لك: غيّر عتبة بيتك.
قال لها: أنتِ عتبة بيتي وأنت طالق، قد أمرني أبي بذلك.
ثم جاء سنة ثانية فوجد امرأة غيرها ولم يجد إسماعيل فسألها: كيف أنت؟ قالت: أنا بخير حال قال لها: كيف عيشك؟ قالت: على أحسن حال، قال: كيف زوجك؟ قالت: على أحسن عشرة، قال لها: قولي لإسماعيل: إذا أتى فليثبت عتبة بيته.
وهكذا جاء فقال لها: أنتِ عتبة بيتي وقد أمرني والدي بتثبيتك، وهكذا كبر الغلام، وأمر الله إبراهيم ومعه ولده إسماعيل ببناء الكعبة، فبُنيت، ثم رأى إبراهيم رؤيا أنه يذبح ولده، ومن هنا كان: ﴿كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٥].
قال لولده وأصبح غلاماً يسعى معه: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فلَمَّا أسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٢ - ١٠٣] أي: أماله ليذبحه، فأنقذه الله وفداه بذبح عظيم أي: بكبش، فصبر على البلاء، وصبر على بناء الكعبة، وصبر على تقشف مكة والصحراء، فاستحق من الله أن يشيد به ويخلد مع الخالدين.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل) لا كما يزعم اليهود أن إسحاق أفضل من إسماعيل، وجعلوا يتنقصون إسماعيل؛ وفي هذه الأشهر الأخيرة يتجولون على بلاد المسلمين بفلم سينمائي تمثيلي يتنقصون إسماعيل، ويشيدون بإسحاق عليهم لعائن الله تترا، ونحن نقول: إسماعيل نبي الله ورسوله، وإسحاق نبي الله، ولكن إسماعيل نبي ورسول، أما إسحاق فنبي فقط، وقد ذكر الله في سورة مريم: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٤]، أما إسحاق فذكره بالنبوة فقط، وقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله اصطفاه من أولاد إبراهيم، فهو سيد أولاد إبراهيم على الإطلاق.
قوله: ﴿وَإِدْرِيسَ﴾ [الأنبياء: ٨٥] من إدريس؟ قيل إن اسمه: خنوخ، وإدريس هو جد والد نوح وأقدم منه، فإدريس أول من ألهم علم القلم والكتابة، وإدريس أول من أُلهم خياطة الثياب، وكان الناس قبله يلبسون الجلود، كالكثير من بلاد أفريقيا البدائية اليوم يأتون الجلد فيلبسونه، وقد لا يسترون إلا العورة إدريس أُلهم أن يخيط الثياب، فخاطها وعلمه أولاده وشعبه وأمته.
وقد قال الله عنه: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٧] رُفع إلى السماء الرابعة، حيث اجتمع به ﷺ في ليلة الإسراء، وهو ليس من أجداد الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما قابله لم يقل له: مرحباً بالولد الصالح كما قال إبراهيم.
وإدريس رفع مكاناً علياً حياً كما قال الجمهور، وقال آخرون رُفع ولكنه بروحه وليس ببدنه، وحكوا قصة لم تثبت عندنا في السنة النبوية والأحاديث، ولم تذكر في القرآن، وقيل: إنه مات في السماء، وإنه رأى ملك الموت ينظر إليه، فتساءل: ما هي نظرة عزرائيل هذه؟ فحكى لبعض من عاصره ممن كان على صلة به، ولعله من الملائكة أيضاً قال له: ما أرى ملك الموت إلا يريد روحي أبعدني عنه إلى الأعالي! أخذه وحلّق به في الأجواء ليرفعه إلى السماء الرابعة، وإذا بملك الموت يفاجئه محمولاً وقد كاد يصل إلى السماوات، فعجب وسأله من معه أن يرجئ موته إن كان مكلفاً بذلك، قال: أنا عندما رأيت إليه عجبت لأنني مكلف بأخذ روحه في السماء ورأيته في الأرض، وهذا بعد لحظات، وأين الأرض من السماء؟ ومتى سيصل إليها؟ فأخذ يرجوه أن يؤجله فالتفت فوجده ميتاً، هذا الكلام قد قيل: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ﴾ [الأنبياء: ٨٥].