تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم)
قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: ٨٨] استجبنا لدعائه وحققنا رغبته، وقبلنا ضراعته وتوبته.
﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾ [الأنبياء: ٨٨].
والغم أشد أنواع الهم والحزن والألم، فكان حزناً وغماً لندمه حزناً وغماً لقذفه في بطن الحوت في قعر ظلمات البحر والحيتان والليل، فنادى الله تعالى أن يصرف عنه غمه وكربه، وأنه معترف بظلمه، فقال الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨].
وهذا مغزى القصة والآية أي: كما نجينا ذا النون من ظلمات البحر عندما تاب وأناب، ﴿كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨] الذين يقعون فيما وقع فيه ذو النون عندما يبتلون بمعصية، ثم يتوبون ويقولون ما قال ذو النون: ﴿أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧].
أي: أنزهك وأعظمك وأسجد لك وأمجدك.
وجاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من طريق سعد بن أبي وقاص كما في الصحيح والسنن: (إنه الاسم الذي إذا دُعي الله به أجاب، وإذا سئل أعطى).
وقد قال الحسن البصري: اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل أعطى دُعاء ذي النون: ﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧].
وقد قال هذا نبي الله صلوات الله وسلامه عليه، ثم قرأ الآية: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨] عندما قال في الظلمات: ﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧].
هذه قصة يونس بن متى نبي الله المرسل إلى مائة ألف أو يزيدون في أرض العراق، والذي غاضب ربه وغاضب أمة دعوته فعوتب بهذا، ثم تاب وأناب.
ولا نقول: الغضب جريمة بالنسبة للعموم، فالغضب: حالة تفاعلية نفسية، ولكن بما أن ذا النون نبي رسول عليه الصلاة والسلام كان ينبغي أن يصبر، وأن يعزم ولا يفعل ذلك، وعندما فعله عوتب؛ وهكذا كما يقول العارفون بالله: حسنات الأبرار سيئات المقربين، قد لا يحاسب عموم الناس على الغضب إذا لم يتجاوزوا حدهم وقت الغضب، فيسيئون أو يذنبون؛ أما الأنبياء فالأمر ليس كذلك، وطالما كان عليه الصلاة والسلام يأتيه المسلمون فيطلبون منه أن يدعو لهم وأن يوصيهم، وكان طبيباً نفسياً وروحياً صلوات الله وسلامه عليه، فقد أتاه يوماً من قال له: (يا رسول الله! أوصني وأوجز حتى لا أنسى، قال: لا تغضب) يطلبه ثلاثاً ويجيبه ثلاثاً بـ (لا تغضب)؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علم من حال هذا الرجل أنه إذا أتي سيؤتى من الغضب، فقد كان يغضب لأي شيء، وقد يفعل ساعة الغضب ما لا يفعله ساعة الرضا، وإذا غضب وصنع ما صنع قد تقع الكارثة خلال ثانية واحدة، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، فإنه إذا فعل المصيبة لا ينفعه بعد ذلك شيء، كمن يأتيك ويستشيرك ويكثر هذا: فلان طلّق ثلاثاً، فلاناً طلّق واحدة فيريد أن يلقنك فيقول: كنت غضبان فيكون
ﷺ لم تغضب؟ وإذا غضبت تمالك نفسك وإرادتك، لم سمي العقل عقلاً؟ ليعقلك عن الضر والظلم، وعن الإيذاء، فإذا نحن سامحنا كل غاضب ضاعت الأحكام، وضاعت الأيمان فنقول له: جزاؤك لغضبك أن تُطلق عليك زوجتك.
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨] وهكذا الله علمنا جل جلاله في مغزى هذه القصة إذا غضب أحدنا وصدر عنه ما صدر، ووقع في ورطة أو في غم أن يدعو بدعاء نبي الله يونس بن متى.
وقبل سنة تقريباً حدثت جريمة في الجو، حيث صودرت طائرة تحمل مجموعة من المسئولين من بلاد المسلمين، وذاك المجرم قد أراد نسفها في الجو أو قتلهم بعد النزول في الأرض مع تواطئ بعض المسئولين المجرمين الذين لا يقدرون العواقب، فقص علينا القصة أحد هؤلاء المسئولين من المقربين لبلادنا أو منها، حيث قال: في تلك الساعة وأنا أشعر أنني بين يدي الوحش المفترس تذكرت دعاء ذي النون، وإذا بي أجد نفسي تقول ذلك بكل حواسي، وبكل خلايا جسمي، وأضرع وأقول: ﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] وإذا الوضع كله يتغير، وإذا به يسلم ويسلم من معه ولا يحدث لهم شيء كما لم يحدث لذي النون.
ثم أنقذ الله ذا النون وأتى الحوت به إلى الشاطئ وقذفه، وهكذا ألقي عرياناً كالفرخ الذي لم يكن له ريش، وهكذا حدث، وبعد ذلك كسي، وعاد إلى قومه ودعاهم إلى الله، ووجدهم قد أسلموا وتابوا وأنابوا، وعاش مدة حياته إلى أن لقي ربه وهو يضرع ويستغفر ويسبّح ويدعو الله تعالى، وتاب عن الغضب ألبتة إلى لقاء ربه.


الصفحة التالية
Icon