تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى)
قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠].
استجاب لزكريا وأجاب دعاءه وضراعته.
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ [الأنبياء: ٩٠].
وهب له وليداً حقق رغبته، وكان ذكراً، وجعله صالحاً ونبياً وسيداً وحصوراً، وأوقف نسله في ولده، ولو طلب زكريا الذرية إلى الأبد لكانت، لكنه طلب ولداً فرزقه يحيى وجعله سيداً وحصوراً لا يأتي النساء، وهو بالتالي لن ينجب ولا يكون له أولاد، وهكذا كان.
قوله: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠].
كانت عقيماً فأصبحت ولوداً، وكانت عجوزاً لا يلد مثلها فأعطاها من الشباب والاستعداد ما يكون للشباب والصغيرات، فولدت، وقيل: وكانت شرسة اللسان، بذيئة القول، فأصلحها الله له؛ لأن الشرسة تنفسر النفس منها عادة، وإن كانت بينهما صلة فتكون بنفور وقل ما يعلق الولد، بخلاف ما إذا كانت رضية خلوقة فإن ذلك يكون أدعى للتعلق وأدعى للولادة، فأصلحها الله لساناً وخلقاً ورحماً، وأزال عقمها وعجزها فأصبحت لينة هينة ذات أخلاق عالية، وأصلح شبابها فأصبحت تلد.
ثم أخذ الله جل جلاله يثني على جميع الأنبياء الذين مضوا فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: ٩٠].
أي: من عند آدم إلى نوح إلى موسى إلى هارون إلى زكريا إلى إسماعيل إلى إدريس إلى ذي الكفل إلى ذي النون ومن سيذكر بعد إلى مريم أشاد الله بالكل، وأثنى على الكل، ووصفهم فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: ٩٠].
كان هؤلاء الأنبياء والرسل مدة أعمارهم وخلال رسالاتهم ونبواتهم ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: ٩٠] ويتسابقون كالمباراة والمسابقة التي تكون للهو واللعب، وكانت مسارعتهم إلى عبادة الله وفعل الخيرات بشتى أنواع العبادات، قائمين ومصلين، وطائفين ومتصدقين، ومتهجدين ومجاهدين، وعاملين بجميع الخيرات التي كانوا متصفين بها ويسارعون للوصول إليها.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠] كانوا يتسابقون للخير وفعله وللدعوة إليه، ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠].
رغباً: طمعاً بما عندنا من جنة ونعيم مقيم.
ورهبة: مما عندنا من عذاب ونقمة وجحيم.
كانوا يتقربون إلى ربهم بين الخوف والرجاء، وبين الطمع والخوف، وهكذا العبادة أن نعبد الله تارة طامعين برحمته، وتارة خائفين من عذابه: ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٩].
وقد قال علماؤنا: ينبغي للصحيح ما دام صحيحاً وللصغير ما دام صغيراً أن يغلِّب الخوف على الرجاء؛ ليزداد عبادة وطاعة، ويزداد حرصاً على فعل الخيرات، حتى إذا مرض أو شاخ فليغلب الرجاء على الخوف؛ لأن الله يقول كما في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) ولا نظن بربنا إلا خيراً جل جلاله وعلا مقامه.
وقد قال قوم (يعبدونني خوفاً وطمعاً) معناه: أنهم يدعونني عندما يريدون الخير بباطن أكفهم وعندما يريدون الشر بأعدائهم بظاهر أيديهم، ومن هنا شرع أن تكون الأيدي مفتوحة مبسوطة لرحمة الله ولعطاء الله ولفضل الله؛ وعندما يكون الدعاء بالنقمة على الأعداء والمنافقين والظالمين يكون الدعاء بظاهر الأكف ليدفع ذلك عن الداعي.


الصفحة التالية
Icon