تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب)
قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤].
متى يكون هذا؟ متى يكون عذاب المشركين الكافرين؟ ومتى يكون تنعيم المؤمنين وإكرامهم بالجنان حيث تستقبلهم الملائكة فرحين بهم مرحبين بهم، قائلين لهم: ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٣]؟ يكون هذا: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، أي: يوم القيامة، يوم فناء الدنيا بسمائها وأرضها، يوم لا يبقى إلا الله الأول بلا بداية، الآخر بلا نهاية، يوم يقول: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر: ١٦]؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه: أنا الملك! أنا ملك الملوك؛ جل جلاله وعلا مقامه.
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، أي: تطوى السماء كما يطوى الكتاب والصحيفة والورق، وتذهب السماء وكأنها لم تكن، والورقة يقرؤها الإنسان وعندما ينتهي منها في العادة يطويها ويرميها في سلة المهملات.
كذلك السماء تطوى كطي السجل، والسجل: هو الورق، وأشبه ما يكون بغلاف الكتاب وجلده.
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] وفي القراءات السبع: (للكتاب).
والسجل: ورق.
والكتاب هنا: المكتوب، أي: كما يطوى المكتوب ضمن هذا الورق، ومعناه أن السماء تنتهي وتصبح عهناً منفوشاً وكأنها لم تكن، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧] أي: يفنى كل ما على الكون، وكل ما في الخليقة، ويبقى الله الدائم الحي لا ملك ولا جن ولا إنس يكون هذا يوم ينفخ إسرافيل في الصور بأمر الله، وقديماً منذ (١٤٠٠) عام قال لنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، عن إسرافيل أنه قال: كيف أضحك وقد انحنيت على الصور أنتظر أمراً من الله بالنفخ فيه؟! وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين) فرسول الله عليه الصلاة والسلام كان من العلامات الصغرى ليوم القيامة، ونحن مقبلون على العلامات الكبرى، ولا يعلم الساعة بزمنها هل هي في نهار أو ليل إلا الله.
وعندما سأل جبريل نبينا عليهما السلام: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ولكن عاد فسأل: (ما أماراتها؟) فأخذ يجيب عن العلامة، ونحن في العلامات منذ ظهر في هذه البطاح المقدسة سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله: ﴿يَوْمَ نَطْوِي﴾ [الأنبياء: ١٠٤] أي: أولئك خالدون في النار، وهؤلاء خالدون في الجنة، يكون أولئك معذبون وهؤلاء منعمون.
قوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤].
ثم بعد الفناء والذهاب، وبعد الموت يعيد الله الخلق الذي بدأه أول مرة، هو كما ابتدأه قادر على أن يعيد خلقه، وهذا هي حجج العقول لمن له عقل، نحن نرى أجسامنا وأنفسنا، ونرى غيرنا في الوجود من الذي أوجدنا؟ من الذي خلقنا؟ من الذي أعطانا هذه الحواس؟ لقد خرجنا أطفالاً من بطون أمهاتنا ومن أصلاب آبائنا، ثم كبرنا ثم ذهبنا كما ذهب الآباء والأجداد، وبعد مائة سنة أين من كان يسكن مكة ويسكن جزيرة العرب؟ بل ويسكن الأرض؟ ذهبوا في أمس الدابر، وسنصبح يوماً حديثاً في أمس الدابر كما كان الأولون.
ويأتي بعدنا من يحتل أرضنا ويرث أملاكنا، ويفعل! ويفعل! وهكذا فكما أننا خلقنا من عدم لا شك أن لنا خالقاً موجداً، هو الله الخالق جل جلاله.
فكما ابتدأنا الله بلا مثال سابق ولم نكن موجودين هو قادر جل جلاله على أن يعيدنا، ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٨ - ٧٩] ذاك منطق العقول لمن ﴿لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧]، ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤].
عندما يفعل ذلك بعد زمن الله أعلم به، ولكنه سيأتي لا محالة، فيعيد خلقنا كما كنا في دنيانا ونبعث كما متنا شيوخاً أو شباباً أو أطفالاً، نساءً أو رجالاً، أصحاء أو مرضى، ثم نعرض على الله حفاة عراة غرلاً، والسيدة عائشة رضوان الله عليها حين سمعت هذا من رسول الله عليه الصلاة والسلام قالت: أيرى بعضنا بعضاً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هيهات يا عائشة! الناس ليس لهم هم في ذلك، كل في بلائه ومصيبته ويقول: نفسي! نفسي!)، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٧].
قوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، أي: كما بدأ الله أول الخلق آدم من تراب ثم حواء منه، ثم سلالته من نطفة من ماء مهين، سيعيد خلقنا، وقد وصف لنا ذلك عليه الصلاة والسلام، فذكر أن في منتهى فقرات الظهر حبة كقدر العدسة اسمها: عجب الذنب، ستبقى كالبذرة للإنسان، فعندما يأمر الله بالبعث والنشور تنزل أمطار، وإذا بهذه الحبة تنبت كما ينبت النبات، وإذا بنا قياماً ننظر ونحن معروضون على الله نذهب زحفاً إلى أرض المحشر، وإن أرض المحشر هي أرض الشام.
قوله: (وعداً علينا) أي: وعدنا ذلك وعداً، أو أوجبنا ذلك على أنفسنا، ولا يجب على الله شيء كما أوجبه على نفسه.
قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، أي: فاعلين لهذه الحياة بعد الموت؛ لعذاب المسيء ولرحمة المحسن، وعليه أرسلنا الرسل مبشرين مبشرين المؤمنين بالرحمة والجنة، ومنذرين العصاة بالغضب والنار.