تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥].
يقول جل جلاله: قد كتبنا في الزبور، وما الزبور هنا؟ فسر الزبور بزبور داود، وبما يلحقه من التوراة والإنجيل، وفسر الذكر بالقرآن الكريم، ولكن الله قال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] ومعناه: أن ذاك كان مكتوباً بعد الذكر، والقرآن كان بعد الزبور لا قبل الزبور، وهو يطلق على كل الكتب، والتقدير: وكتبنا في الكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور وصحائف إبراهيم، من قبل الذكر، والذكر: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما يكون إلى قيام الساعة.
أي: الله جل جلاله منذ خلق الكون وكتب اللوح المحفوظ جعل الأرض للعباد الصالحين، جعل الأرض للموحدين المؤمنين، ومن هنا قوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [الحشر: ٧]، أفاء: من الفيء، والفيء الرجوع.
وكأن الله يقول لنا: هذه الدنيا التي خلقت للموحدين ستعود لكم، فأنتم اليوم الموحدون في الأرض، ومن هنا كان نبينا ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم يعدون الأرض كلها وطناً شاملاً عامة للمسلمين، ما ملكناه فهو ملكنا عملياً، وما لم نملكه بعد ولم نفتحه فهو مجالنا الحيوي الذي يجب أن يعود لأرض الإسلام.
ومن هنا قسم فقهاؤنا الأرض إلى ثلاثة أقسام: أرض إسلام، وأرض عهد، وأرض حرب، فأرض الإسلام التي يقوم عليها الإسلام حاكماً، وأرض العهد ما عاهدنا عليه أقواماً مؤقتاً لمصالح اضطر إليها المسلمون، وأرض حرب ليس أهلها أهل ذمة ولا معاهدين لنا، وأرض الحرب ملك للمسلم متى وصلت يده إليها فهي له غنيمة.
ولذلك هذه الوطنية الضيقة والإقليمية المعوجة مثل قولهم: هذا بلدي وهذا بلدك وهذا وطني وهذا وطنك هذه وثنية ما أنزل الله بها من سلطان، والنبي عليه الصلاة والسلام عندما سمع من ينادي: هذا فلان هذا فلان! مثل ما نقول الآن: يا عربي! يا هندي! يا عراقي! يا حجازي! قال: (دعوها فإنها منتنة) لها روائح كريهة؛ ولذلك كان ما ينادي عليه الصلاة والسلام إلا: يا أيها المؤمنون! يا أيها المسلمون!.
وهكذا خاطبنا الله فلم نجد في القرآن: يا أيها العرب! ولا نجد: يا أيها العجم! ولكن نجد: يا أيها الناس! خطاب لكل مسلم وكافر؛ لكي يستقر المؤمن على إيمانه ويلازمه، ولكي يدخل الذين لم يؤمنوا من الناس في الإيمان.
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥].
قال علماؤنا: هذه الآية إشارة للمؤمنين وأمر لهم بأن ينتشروا في الأرض فاتحين، هداة داعين إلى الله وحده.
وقد فعلوا، فخلال خمسين سنة كانت جيوش المسلمين قد توجهت شرقاً إلى السند، وغرباً إلى عمق أوربا، وهكذا كانت دولة الإسلام مدة ألف عام، ولكن عندما فرطوا وتنكروا لنبيهم وكتابهم وشريعتهم عوقبوا بأنواع من الاستعمار والاحتلال، ومن ضياع العقول، ومن الذل والهوان إلى أن بلغ الأمر أن يخضع المسلمون لليهود، ويسعوا في مصالحتهم ومتابعتهم، وما ذلك إلا عقوبة إلهية للمسلم عندما ترك ربه، وترك إمامه عليه الصلاة والسلام، وسعى وراء الشيوعية اليهودية، والاشتراكية اليهودية، والماسونية اليهودية، وكل مذاهب السوء الضالة، ولا يرفع غضبه ولا عقوبته ما لم نعد إلى الله تائبين منيبين؛ ليعود علينا بعوائده الطيبة، وهو فاعل جل جلاله كما وعدنا في كتابه بقوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧].
قوله: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾ [الأنبياء: ١٠٥]، أي: في الكتب السابقة.
قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ [الأنبياء: ١٠٥]، أي: من بعد اللوح المحفوظ الذي ذكر فيه كل شيء.
قوله: ﴿أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] أي: أن الأرض بكل أقاليمها وأصقاعها وقاراتها هي للعباد الصالحين، وما العباد الصالحون إلا المؤمنون المسلمون، ولا إيمان لمشرك، ولن نقول على الكتابيين إنهم مؤمنون، فالذي يشرك مع الله عيسى أو مريم أو العزير أو العجل ليس بمؤمن، فلقد قال الله عنهم: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣] وقال عن اليهود والنصارى مجتمعين: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وقال عن الكل: ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: ٣٠]، كفروا كفر السابقين، وحتى في كفرهم كانوا مقلدين.


الصفحة التالية
Icon