تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١].
هذه طبقة أخرى من الناس مذبذبة منافقة، تسلم وتؤمن ولكن إسلامها يكون على الحاشية، فلا يكاد يصيبهم شيء إلا وتجدهم قد ارتدوا وكفروا وتنكروا للدين الذي دانوا له.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] الحرف: جانب الطريق، أو جانب الجبل، أو جانب الحائط، أو جانب الوادي، فهم يؤمنون ولا يدخل الإيمان في قلوبهم، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم يؤمنون ولكن لا يخالط بشاشة الإسلام قلوبهم، بحيث يعتقدون ويتيقنون بالإسلام عقيدةً ونظاماً ودولةً.
وإنما يؤمنون باللسان وهم على طرف من الإسلام والإيمان كمن يقف على حافة جبل، أو على حافة بئر، أو على حافة نهر أو بحر، وبأقل حركة منه يتدهده ويسقط إلى الحضيض.
فهذا الذي يؤمن على حرف يقول في نفسه: سأرى إن أدركت خيراً من هذا الإسلام استمررت فيه، وإن لم يصبني منه خير تركته، فهو في الأصل متردد وغير متيقن.
وهنا يكون معنى الآية: ومن الناس من يعبد الله على شك، وليس على يقين ولا إيمان ثابت آمن به الجنان، بحيث إذا نطق اللسان يصدق اللسان القلب والقلب اللسان.
﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ [الحج: ١١] إن كان له خير بعد هذا الإيمان أو كسب أو ربح، إن تزوج أو ولد له ولد، إن زادت تجارته وربح فيها، وإن زادت زراعته وولدت أغنامه وولدت أبقاره يقول: لقد كان هذا الدين علي بركة، وكان ميموناً.
وإن هو لم يتزوج أو ماتت زوجته، أو ولد له أنثى أو خسر في التجارة أو في الزراعة يقول: لا فائدة من هذا الدين، فهو شؤم علي.
فقوله: ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ [الحج: ١١] أي: بعد إيمانه الذي هو إيمان شك وريبة، فإن أصابه خير واكتسب مالاً أو جاهاً أو مولوداً أو تجارة أو زراعة يطمئن ويقول: قد كان ديني هذا الذي دنت الله به دين بركة ويمن.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج: ١١] أي: إن فتن وابتلي بموت قريب، أو بخسارة مال، أو بفساد زرع انقلب على وجهه وارتد وانتكس وعاد للكفر والشرك، فيكفر بالإيمان ويقول: ما وجدت في هذا الإيمان خيراً.
وهكذا إيمان المنافقين المتشككين، وهذا الذي يكون إيمانه كذلك لا إيمان له، بل إن إيمانه أشبه بإيمان أولئك السابقين الذين يجادلون في الله بغير حق ولا هدىً ولا كتاب منير.
فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج: ١١] أي: ارتد وانتكس وأصبح وجهه على التراب، وهي كناية على أنه أدبرت به الأيام فارتد وكفر، فعوضاً عن أن يكون صابراً معتزاً بدينه، يواجه الناس وهو مسرور فرح، إذا به يخجل فيغمر وجهه في التراب، حتى لو لم يفعل ذلك فحاله وانتكاسه وانقلابه وردته تقول ذلك بلسان الحال.
﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ﴾ [الحج: ١١] أي: خسر دنياه التي ما آمن إلا سعياً فيها وطمعاً في غنائم الحرب والزكاة وصدقات المسلمين والفيء، فلما لم يحصل له المراد ارتد وكفر وانقلب على وجهه فخسر دنياه.
وكذلك سيخسر آخرته بأن يدخل النار ويحرم من الرحمة ومن دخول الجنة؛ لأنه لم يسلم، إذ إن إيمان الشك ليس بإيمان، وصاحب الإيمان الذي يكون على حرف إن وجد خيراً استمسك، وإن وجد سوى ذلك ارتد، فهذا إيمان المنافقين كما قال الحسن البصري.
﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١] هذا الذي يعبد الله ويوحده ويدين به على شك وريب لا يكون إيمانه تاماً إلا إذا وجد خيراً، وينتكس إذا لم يجد ذلك الخير، فيكون نتيجة هذا أن خسر دنياه بأن لم يتم فيها ما كان يريده، ويخسر آخرته بدخول النار وغضب الله.
فقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ [الحج: ١١] أي: هذا الذي نقول، ﴿هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: ١١] أي: الخسارة البينة الواضحة التي خسر فيها نفسه، وخسر فيها آخرته.