تفسير قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم)
قال تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: ١٩ - ٢٢].
اللهم أعذنا من النار، اللهم أبعدنا منها، اللهم رحمتك، اللهم مغفرتك، اللهم رضاك، اللهم اكتب لنا الجنة وأبعدنا عن النار.
هذا الوصف يذهل كل مرضعة، هذا الوصف يذهل كل حامل، هذا الوصف يذهل العقلاء! نقرأ هذا صباح مساء، يقرؤه المؤمن والكافر وإذا به ساهٍ غافل عن ذلك، إلى أن يصبح يوماً من الأيام وجهاً لوجه مع جند الله الذين لا يحصي عددهم إلا هو، يصبح في قبره وقد انضم عليه وذهب أهله: فلا امرأة ولا ولد ولا أتباع ولا جند ولا مال.
فيأتيه به ملكان ويسألانه: من ربك؟ فإن أجاب فقد فاز ونجا، وإن لم يجب رسب الرسوب الأبدي والخذلان الأبدي، نعوذ بالله من عذابه! قوله: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] أي: فئتان تخاصمتا في ربهما، فقالت فئة: الرب له شركاء، تعالى الله عن ذلك، وذهبت تترك الواحد الأحد الفرد الصمد وتعبد الأحجار، وتعبد الخلق معه وبدونه.
﴿اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩] أي: في الله، فالموحد المؤمن يقول: الله ربي خالق كل شيء، الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والملك الحق، خلق الإنسان من عدم، وأذهبه للعدم، وسيعيده مرة ثانية بعد الموت، فجاء الكافر وخاصم الموحد المؤمن وجادله بغير حق، وبغير علم وهدىً، وبغير كتاب مبين.
وكان الأولون يقولون: الله وشركاؤه، وجاء الكفرة المجددون للكفر والفساد، المتقدمون في الكفر، المفسدون للخلق وللبشر فقالوا: لا إله.
ومعاذ الله وتعالى الله! مع أنه في كل شيء له آية تدل على أنه واحد، ولكن عميت بصيرتهم قبل أن يعمى بصرهم.
فهذه السماوات العلى بنظامها، وبنجومها، وبمجراتها، وبليلها، ونهارها، وهذه الأرض بمن عليها ومن فيها من جبال ووهاد وتلال وشعوب وحيوانات وطير كل ذلك قال عقل هذا الأفاك الفاسد: وجد من غير موجد.
ثم نازعه المشرك الآخر، فقال هذا، وعبد معه غيره، عبد زعماءه وأشركهم مع الله، وقال بالطبيعة، وهو يوصف الله بالطبيعة، فكل ما هو من صنع الله قال: هو من صنع الطبيعة، فسمى الله بغير اسمه زيادة في الضلال.
وهكذا تخاصم مؤمن وكافر، وهي خصومة أبدية إلى يوم البعث والنشور، إلى اليوم الذي يعرض فيه هؤلاء على الله، فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار.
قوله: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾ [الحج: ١٩] الإشارة لمن ذكر الله من الذين أكرمهم بالجنات، خالدين فيها تجري من تحتها الأنهار، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن وصف من فئات الكفار والمنافقين، هذان اللذان أشار إليهما بأنهما خصمان اختصموا في ربهم، ثم أعاد الضمير للجمع؛ لأن كل فئة جماعة، والخصم جماعة وليس واحداً، ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: ١٩].
قوله: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الحج: ١٩] الفئة الثانية التي خاصمت الذين آمنوا هم الذين جادلوا بغير حق وبغير علم وهداية، وبغير كتاب بين واضح.
قوله: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ [الحج: ١٩] نعوذ بالله! فهؤلاء عندما يدخلون النار فالله جل جلاله يجعل ألبستهم وأرديتهم وقمصانهم قطعاً من النار، وقطعاً من الصفر وهو أشد، فإذا النار علقت به يكون حرها أشد ما يكون.
هذا الصفر وهذا النحاس عندما يلبسه الكافر ويجبر على لبسه، ولا يد له في المخالفة ولا يستطيع ذلك، يلبسه في جسده كله: من رأسه إلى قدميه، فيحرق ويمزق ويقطع جسمه كله، ولا سبيل إلى أن يفلت من ذلك: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء: ٥٦]، فتحترق الجلود والأمعاء والجسد، ثم يعيد الله ذلك ثانية بعد ثانية؛ ليزداد عذاباً وذلاً وهواناً.
قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ [الحج: ١٩] فيأتي ملائكة النار فيصبون على رءوسهم الحميم.
قوله: ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ [الحج: ١٩] والحميم: هو الماء الحار إلى أغلى درجة الحرارة.
قالوا: وهو نحاس مذاب، فيصب هذا النحاس وهو كالماء الحار في أشد غليان الحرارة يصب من رأسه إلى بدنه.