تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)
قال الله عزت قدرته: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: ٢٣].
بعدما قص الله علينا، وأنذر وأوعد وتهدد المشركين بأليم العذاب، وشديد المحنة، والخلود في النار بالمقامع ومع حريق وأنواع البلاء لعلهم يتعظون ويئوبون ويتوبون من شركهم، ويقولون يوماً: ربي الله، وكما هي عادة القرآن الكريم، فإنه يقرن دائماً بين العذاب والرحمة، وبين البشارة والنذارة، وبين المؤمن والكافر، حتى إذا اشتد يأس الكافر والعاصي والمخالف فإذا بالرحمة تذكر بجانب ذلك، فيتذكر ويئوب ويعود ويقول: ربي الله.
وكذلك المؤمن حتى لا يغتر ولا يستكين لمكر الله فيدخله الغرور والغلو، فيقصر في الطاعة والعبادة، فيجد من النذير والوعيد والتهديد ما يزيده طاعة وتعلقاً وإيماناً بالله.
وهكذا الطاعة والعبادة بين الخوف والرجاء؛ الخوف من غضب الله، والرجاء في رحمته.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [الحج: ٢٣] أي: الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، ثم التزموا القول بالعمل، فعملوا الصالحات، وقاموا بالأركان: شهادة وصلاة وزكاة وصياماً وحجاً، والتزموا فعل الخيرات قدر استطاعتهم، والتزموا ترك المنكرات ألبتة، ومن آمن بالله، ثم عمل الصالحات بما يصدق قوله فعله وفعله قوله، فهؤلاء يكرمهم الله بدخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، والله جل جلاله دوماً يبشر المؤمنين الملتزمين المطيعين بكل رحمة ورضاً ودخول الجنان.
ثم قال تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ [الحج: ٢٣] أي: في الجنة يلبسون الحلية.
﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ [الحج: ٢٣] أساور: جمع سوار، كما هي عادة الملوك في هذا العصر، أو في القديم يلبسون التيجان والأساور واللآلئ، خاصة في أرض الهند وما إليها، ولا يزال بعض ذلك قائماً، ولا يزال ذلك يفعلونه في حفلاتهم وندواتهم ومهرجاناتهم، واستبدلوا ذلك بساعات وسلاسل الذهب، ونياشين الذهب وأوسمة اللؤلؤ وما إلى ذلك.
فالمؤمنون الذين يكرمهم الله ويدخلهم الجنة يلبسهم في الجنة من أنواع الحلي والأساور من الذهب والفضة واللؤلؤ في الأيدي والأعناق والمعاصم، ويلبسون فيها الحرير.
كذلك في الجنان لباسهم الحرير والديباج، وحليتهم الذهب والفضة واللؤلؤ، ومن هنا حرم رسول الله ﷺ الحرير على ذكور المسلمين، وقال: (من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة).
فقال قوم: لا يدخلون الجنة لأن من دخلها يلبس الحلي، وقال قوم: بلى يدخلون الجنة ولكنهم لا يلبسون هذه الحلية الذهبية، وهذا جزاء من يخالف ويعصي، ويلبس الذهب والحرير في الدنيا.
وقد حرم ذلك على ذكور الأمة المحمدية، وأحل ذلك للنساء، ويلبسه الرجال يوم القيامة في الجنان خالدين مخلدين.
فهذا صفة الجنة وما فيها من حور عين.
وأعظم من ذلك رؤية الله جل جلاله التي ما بعدها لذة ولا نشوة ولا متعة، جاء في الحديث الصحيح: (أن الله يتجلى لعباده في الجنة فيقول لهم: هل أعطيتكم؟ هل ملكتكم؟ هل متعتكم؟ فيقولون: نعم ربنا، فيقول: هل أزيدكم؟ فيقولون: وما تزيدنا يا رب وقد أمتعتنا بما لم تر عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلوبنا؟ قال: بلى، أريكم وجهي، فيتجلى الله لهم ويرونه؛ فيزدادون نعمة ولذة، ويزدادون بهجة) وكيف سيكون ذلك؟ الله أعلم بما هناك.
وكل ما يخطر في بالنا فربنا مخالف لذلك، ولكن الله يرى جل جلاله، وقد قال ذلك ربنا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣].
وقال عليه الصلاة والسلام كما في الأحاديث المستفيضة المتواترة: (إنكم ترون ربكم يوم القيامة، قالوا: يا رسول الله! كيف نراه ونحن متعددون وهو واحد؟ قال: كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته).
ولله المثل الأعلى، فالقمر واحد ونحن نراه في الدنيا مع أعدادنا في مشارق الأرض ومغاربها، ومع الملايين من سكان الأرض نراه جميعاً وهو واحد غير متعدد، أعني: قمر الأرض.
وهكذا جل الله وعلا على سبيل المثال والشبيه: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل: ٦٠].


الصفحة التالية
Icon