تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)
قال الله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: ٢٨].
قوله: (ليشهدوا) أي: ليحضروا منافع لهم، وما هي هذه المنافع؟ هي منافع دنيوية ومنافع دينية، فالمنافع دنيوية مثل: السياحة والاجتماع بالمسلمين ومعرفة ما يجري في الدنيا، والتجارة.
ولا مانع للحاج أن يتجر إذا كانت التجارة عارضة زائدة لا أن يأتي للحج بقصد التجارة، فإن نوى ذلك فسد حجه وكان حجه للدنيا وللتجارة لا للعبادة.
فقوله: ﴿مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: ٢٨] من تجارة وتعارف وسياحة، ومن صحة كما قيل: سافروا تصحوا وتغنموا وتزدادوا خيراً، فإن كان طالباً يتعرف على العلماء فيروي عنهم ويروون عنه، ويربط سنده بسندهم، ويعلم حكمة زائدة، ويعود وقد عرف أن الدنيا ليست البقعة التي يعيش فيها خاصة، فمن يأتي من بعيد من فج عميق كالشرق الأقصى والغرب الأقصى، فهؤلاء يحجون مرة ويبقون يتحدثون العمر كله عن هذه الحجة، رأيت فلاناً في مكة وفلاناً في المدينة، ومن عوائدهم كذا، ومن قولهم كذا، وحضرت درس كذا، واستفدت كذا، ورأيت عادة طيبة ينبغي أن نصنعها.
والمنافع الدينية من عبادة لله، ومعلوم أن من خرج من فريضة الحج وقد أداها بأركانها وواجباتها وآدابها رجع منها كيوم ولدته أمه، ومحيت عنه كل سيئة مطلقاً، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، وأي منفعة وفائدة أعظم من هذه! وقوله: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: ٢٨] أي: ويذكر الله ذكراً مستمراً متتابعاً في أيام معلومات.
والأيام المعلومات: هي العشر الأوائل من ذي الحجة، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: ١ - ٢] أي: العشر الأول من شهر ذي الحجة، وهي من أول يوم إلى يوم النحر.
وكان عليه الصلاة والسلام يصومها بما فيها يوم عرفة، ولكن الحاج لا يستحب له صيام يوم عرفة؛ ليكون أقوى للعبادة كالمجاهد، فالمجاهد في رمضان ينبغي أن يفطر؛ لأن ما هو فيه يحتاج للقوة والصلابة والصمود.
وقال قوم: الأيام المعلومات هي يوم النحر، ويومان بعده.
وقال قوم: الأيام المعلومات هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده، أي: أيام التشريق وعلى أي اعتبار فكثرة العبادة فيها مطلوبة، وشأن الحاج أن يكون في العشر الأوائل من ذي الحجة بين طواف وذكر وتلاوة وصلاة وتهجد وصيام، فهو في عبادة مستمرة، ثم يأتي اليوم الثامن يوم التروية، ثم يوم عرفة، ثم يوم النحر، ثم يومان أو ثلاثة أيام منىً، فلكل يوم وظيفة، ولكل يوم عبادة.
وفي الحج الحركة والنوم واليقظة والأكل والشرب عبادة، والجلوس في البيت والنظر إلى الكعبة المشرفة عبادة، ولقاؤك بالمسلمين وتعرفك عليهم والاهتمام بشئونهم وذكر ما يجري في بلادكم وبلادهم عبادة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم).
فتصوروا أن هذا كان منذ ألف وأربعمائة عام، فلم تكن هناك صحافة ولا طيران ولا هاتف سلكي ولا لا سلكي، ولا بريد بهذا الشكل، ولا مواصلات، فليس هناك إلا الدابة والرجل، والبحر في السفن الشراعية، قد تركب وتقدر أن تصل في أسبوع وتجد نفسك في البحر شهرين، كما قال الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وما أكثر ما يحصل من اقتراب السفن من الشواطئ المرادة من المشرق العربي وإذا برياح شديدة تدفع بالسفينة إلى الغرب من حيث جاءت، ومن يقرأ رحلات ابن جبير، ورحلات ابن بطوطة وأمثالهما يجد الكثير الكثير من هذا.
فكان الحج مؤتمراً سنوياً عالمياً، وجعله الله ركناً من أركان الإسلام الخمسة التي لا يتم إسلام المسلم إلا بها، فكان المسلمون يجتمعون ليتشاكوا ويتباكوا، ويعلموا ما يسرهم وما يضرهم.


الصفحة التالية
Icon