تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً)
قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: ٢٧ - ٢٨].
قوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ﴾ [الحج: ٢٧] الجمهور على أن معناها: أن الله أمر إبراهيم عندما بنى البيت بأمر الله أن يعلم الناس ويؤذن في الناس على جبل أبي قبيس ليدعوهم إلى حج بيت الله الحرام.
وقال قوم: الكلام مستقل بعد الآية الماضية وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ [الحج: ٢٦].
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ﴾ [الحج: ٢٧]: كلام جديد مستأنف، وهو أمر لرسولنا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه، أي: يا محمد! أعلم الخلق بحج هذا البيت وزيارته والطواف حوله.
واستجاب ﷺ وقال فيما صح عنه وتواتر أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ألا فحجوا فإن الله يأمركم بالحج).
وهكذا أصبح الحج من شعائر الإسلام، وأحد أركانه الخمسة الرئيسية الأساسية، ولكن الجمهور على أن الخطاب كان للجد الأعلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه صلاة الله وسلامه.
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج: ٢٧] أي: بالقصد والعبادة والزيارة لهذه البطاح المقدسة، وبالطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في عرفات، والمبيت في مزدلفة، والوقوف في المشعر الحرام، والمبيت في منى يوم النحر ويومي منىً، ثم الطواف بالبيت بعد ذلك.
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ [الحج: ٢٧] أي: يستجيبوا لك، فيأتوا لما أمرتهم به راجلين على الأقدام، وركباناً على الإبل والخيل والدواب.
﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧] أي: على كل مضمر من الإبل ومن الدواب، ومعنى (ضامر) مهيأ ومضمر للرحلة والسياحة والتنقل بين الأقاليم والأقطار مشرقاً ومغرباً إلى قصد بيت الله الحرام في مكة المكرمة.
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧] رجالاً: جمع راجل، كقيام جمع قائم، وصيام جمع صائم، أي: يأتوك ماشين على الأرجل، وراكبين على الإبل المضمرة والخيل والدواب.
واختلف علماؤنا هل الحج مشياً أفضل أو ركوباً؟ وقد قلت: إن الشافعي رحمه الله والجمهور على أن الحج راكباً أفضل، ائتساءً برسول الله ﷺ الذي حج راكباً.
وقال مالك وغيره من الأئمة: الحج مشياً أفضل، واحتجوا بفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما جاء للسعي بين الصفا والمروة فقال: (نبتدئ بما بدأ الله به) فقد بدأ الله بالذكر بالصفا ثم المروة، فابتدأ السعي من الصفا إلى المروة.
وقياساً على هذا وأن ما قدمه الله له حق التقديم، قال مالك: قدم الله ذكر الماشين على الأقدام في قوله: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧] فالحج راجلاً أفضل.
وبطبيعة الحال فإن ذلك على من استطاعه واحتمله، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨].
وأما الاحتجاج بفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام فالأمر هنا ليس كذلك، فقد كان من الهدي النبوي والسيرة النبوية أن النبي ﷺ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما على أمته.
والأيسر على أمته أن تحج ركباناً، وأيضاً لو حج رسول الله عليه الصلاة والسلام ماشياً في حجة الوداع وهي الحجة الوحيدة، وقد حج معه فيها مائة وعشرون ألفاً من الأصحاب فيهم الشيوخ الركع، وفيهم الأطفال الرضع، بل منهم من ولد في الطريق، فقد ولدت أسماء بنت أبي بكر وهي في الطريق.
فلو حج الرسول عليه الصلاة والسلام ماشياً لأتعبهم، ولمنعهم من الركوب الحياء، فسيكون رسول الله ماشياً على قدميه وهم ركبان، فسيرى ذلك من قلة الأدب، ومن عدم الحرمة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولو فعلوا كفعله لو حج ماشياً لأجهدهم ولأتعبهم، ولهلك الكثير في الطريق قبل الوصول.
ولم يكن هذا من السيرة النبوية التي فيها الشفقة والرحمة بأمته وبأتباعه من المؤمنين، وعلى ذلك: فلقائل أن يقول كما قال مالك: ما ترك عليه الصلاة والسلام الحج ماشياً إلا رحمة بأمته، وشفقة من إجهادها وإتعابها.
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: ٢٧] قال ربنا جل جلاله: يأتين، وقد ذكر ضامراً مفرداً، فكيف عاد الضمير جماعة؟ قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧] فكل دلت على أن الكثيرين سيأتونك على إبل ضامرة وخيل مضمرة ودواب مهيأة ومعدة لذلك، فبهذا الاعتبار عاد الضمير جماعة، وهو يعود على غير العاقل مؤنثاً كما في هذه الآية.
﴿يَأْتِينَ﴾ [الحج: ٢٧] أي: يأتي هؤلاء الضمار ومن يركبها من البشر.
﴿مِنْ كُلِّ فَجٍّ﴾ [الحج: ٢٧] أي: من كل طريق عميق بعيد، وهكذا الأمر ولا يزال منذ فجر الإسلام يأتي الحجيج إلى زيارة وإلى حج بيت الله الحرام من أقصى ديار الدنيا شرقاً من الصين، وأقصى ديار الدنيا غرباً من المغرب الأقصى وما خلفه.
وهكذا استجاب الناس لدعاء ونداء النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد قلنا: إن النبي إبراهيم أو نبينا محمد ﷺ قد علم أن صوته لن يبلغ إلى كل أحد في الأرض ليستجيب لهذا النداء الكريم، ولكن الله قال: سأبلغ صوتك يا إبراهيم أو يا محمد عليه الصلاة والسلام.
وقد قالوا: إن كل من حج منذ النداء النبوي والأمر الإلهي كان قد بلغه وسمع الصوت إلهاماً من الله وهم لا يزالون في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم.
وهذا معنى كون الحاج عندما يغتسل ويصلي ركعتي الإحرام ثم يبتدئ بعد ذلك فيقول: لبيك اللهم لبيك.
فهي استجابة للنداء الأزلي، للنداء الإلهي، للنداء النبوي عندما دعي وهو لا يزال في الرحم وفي الصلب، فعندما استطاع أن يتكلم وبرز للوجود بحواسه الباصرة والمتكلمة والسميعة، فخرج يقول: لبيك اللهم لبيك.
ولا تكون لبيك إلا إجابة نداء، إلا نعم بأقصى أنواع الأدب، ولا يزال هذا في لغة ولهجة أهل الحجاز إذا نودي منادى فإنه من الأدب يجيب: لبيك لبيك.
والتلبية: الاستجابة، ومعنى لبيك لبيك: الاستجابة والتكرار بالاستجابة مرة بعد مرة.


الصفحة التالية
Icon