تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩].
﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩] التفث في اللغة العربية: القذارة والوسخ، أي: ليزيلوه، والمراد من الآية: زوال ما علق بالإحرام وكان يمنع زواله كحلق الشعر أو قصه، أو تقليم أظفار اليدين أو الرجلين، أو زوال شعر العانة، أو ما يدعو إلى التطيب وإلى التزين، أو يأخذ من شعره رأساً أو لحية.
ومن المعلوم أنه في الماضي عندما كان يحج الحاج يأتي راجلاً أو يأتي على الدواب، وقد أدرك هذا الكثير من معاصرينا، ولو كنا هنا لأدركنا ما أدركه غيرنا، ولقد كانوا يحجون على الدواب من مكة إلى المدينة عشرة أيام أو تزيد، وراجلين في نحو شهر.
وأما من الديار البعيدة، أما من الشرق الأقصى، أما من المغرب الأقصى فكان يستغرق ذلك عاماً أو يزيد، فعندما يبتدئ الإحرام من مواقيته خلال عشرة أيام وخاصة من أفرد إذا وصل إلى هنا قبل شهر الحجة تجده يبقى محرماً شهراً وشهرين متصلين، لا يقلم أظفاراً، ولا يقص شعراً، ولا يزيل شعر عانة، ولا يأخذ من شاربه، ولا من لحيته، ولا من رأسه، ولا يتطيب، فيتجمع هذا ويتكاثر وقال عنه الله تعالى: التفث.
قال إمام اللغة الزجاج: هذه الكلمة لا أعرفها ذكرت في معاجم اللغة إلا في القرآن الكريم، فمن القرآن أخذناها، ومن القرآن علمنا معناها.
معنى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩]: أي: يزيلون ما علق بهم بعد نهاية الحج وإتمام المناسك، عندما يزيلون الإحرام ويتمون طواف الإفاضة يقلمون أظفارهم، ويحلقون عاناتهم، ويحلقون رءوسهم أو يقصرونها، ويأخذون من الشارب، ويجملون اللحية في أطرافها ومن أطرافها، ويلبسون الثياب النظيفة.
وهنا يكونون بهذا العمل قد أزالوا التفث، وأزالوا ما ارتبط بالإحرام من هذا الذي سماه التفث، وقالوا عنه: القذر والوساخة، وذاك زيادة في العبودية لله، وزيادة في أن يقف المالك والمملوك، الكبير والصغير، الغني والفقير حاسري الرءوس بألبسة أشبه ما تكون بأكفان الميت، فالكل يقف ويقول: لبيك اللهم لبيك، كلهم عبيد أمام المعبود الذي لا يعبد سواه، ولا يأله سواه، ولا يخلق غيره جل جلاله وعلا مقامه.
هذا الموقف الذي يتذكر الإنسان فيه الموت ويوم العرض على الله، هذا اليوم الذي كان أول نوع من المؤتمرات في العالم، ولم يكن يتصور قبل المواصلات الجديدة وقبل الهواتف والصلات الجديدة من مركوبات شراعية بخارية، وبرية، وجوية.
ومن قبل الهواتف بالسلك واللاسلك، فلو دعا إنسان إنساناً إلى تجمع في مؤتمر من الهند إلى المغرب الأقصى، وإلى مختلف أقطار الأرض لكان ذلك يحتاج إلى السنة والسنتين، ومن هنا لم يحدث هذا قط.
وأول من أحدثه وأوجبه وجعله ركناً من أركان الإسلام هو الله جل جلاله في كتابه، ثم نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه في شرحه وسنته وبيانه، فكان من الأسرار المطوية في هذه العبادة اجتماع المسلمين من مختلف أقطار الأرض منذ ١٤٠٠ عام؛ ليتبادلوا الشكوى، وليتبادلوا الآلام والآمال، وليعلم كل مسلم حال المسلمين من إخوانه في مشارق الأرض ومغاربها.
فعندما يعود هؤلاء الناس مختلفي الألوان واللغات والآراء والأصقاع والأوطان، يعودون وقد زودوا بحال إخوانهم المسلمين: إن كانوا في ضيق وضر أعانوهم إن بالمال وإن بالسلاح، وإن بالتأييد القولي.
وإن كانوا بخير فرحوا بفرحهم، وسروا بسرورهم، وقديماً جعل الله جل جلاله الأخوة بين المؤمنين فقط، وقسم العالم أرض حرب وأرض إسلام.
والله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] فلا إخوة إلا بين المؤمنين الذين يعبدون رباً واحداً، ويدينون بالولاء، ويؤمنون بنبوءة نبي واحد، ويؤمنون بكتاب واحد هو كتاب الله، والمفروض أن تكون اللغة واحدة هي لغة القرآن، لغة النبي المرسل والمنزل عليه القرآن عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩] أي: يزيلوا ما علق بهم نتيجة الإحرام الذي طالت أيامه، وما ارتبط به من طول أظفار وطول شعر وقلة غسل وتطييب.
﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩] أي: يقومون بالوفاء بالعمل الكامل للنذور، وهي: جمع نذر.
وقالوا هنا في النذور: هي مناسك الحج: فضائله وأركانه وواجباته وآدابه؛ لأن الإنسان عندما يبتدئ النية بعمل واجب أو بعمل مرغوب يكون فيه متطوعاً، وبمجرد البداية فيه يصير لا بد من التمام، فالبداية موجبة للتمام، ﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٣].
فلا يجوز لنا -حتى ولو في النافلة- أن نكبر تكبيرة الإحرام، ونقرأ الفاتحة وسورة، ثم يبدو لنا فنترك الصلاة ونقول هي تطوع، فهذا لم يأذن به رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا في الصيام، وقال: (المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام وإن شاء أفطر)، ولا يكون إلا إن دعته لذلك ضرورة كما قال الكثير من الأئمة، حتى إنه إن أفطر لهذه الضرورة ولو إرضاء ضيف أو إرضاء عزيز فعليه أن يعيد اليوم الذي ابتدأه؛ لأننا منعنا من أن نبطل أعمالنا عندما نبتدئها.
وقالوا: النذور يدخل فيه نذر الضحايا، ونذر الهدايا، ونذر الذبائح التي نقدمها على اسم الله وذكر الله، نأخذ منها لذلك، ونتصدق بالباقي على الفقير الذي يحسب غنياً بمظهره وحاله، ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة: ٢٧٣]، أو السائل الذي يسأل ويقف على الأبواب ويطلب منك.
هذه الضحايا تعتبر نذوراً، وهذا الحج بمجرد الإحرام ولو كان تطوعاً فلا بد من إتمامه، ومن قطعه فإنه يأثم، وعليه أن يعيده.
﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] البيت العتيق هو الكعبة المشرفة.
﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ [الحج: ٢٩] أمر من الله بلام الأمر بالطواف، وأجمعوا في تفسير الطواف هنا: أنه طواف الإفاضة، والذي يسمى كذلك طواف زيارة، وهو ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ووقته وزمنه يوم النحر عندما نقص أو نحلق، وعندما ننحر أو نذبح، نأتي ننزل للكعبة فنطوف بها سبعاً، وعند ذلك نزيل الإحرام وما ارتبط بالإحرام ونتنظف ونتطيب ونخرج مما كنا سجناء فيه ونحن حجاج.
نزيل الإحرام ولواحقه، ولا يمنع إلا النساء، لا يقربن إلا إذا انتهت أيام منىً.