تفسير قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به)
قال تعالى: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: ٣١].
أي: حال كونكم حنفاء لله عابدين مخلصين له، وقد كان قديماً في الجاهلية يقال: الحنيفي؛ لمن يحجوا ويتصدقوا ويعبدوا، ولكن عبادتهم كانت شركية، فهم يسجدون مع ذلك للأوثان، ويقولون: ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله زلفى.
ويقولون كما تقول النصارى: الأب والابن وروح القدس، وقد اختلطت أديانهم ومذاهبهم في ذلك كما قص الله علينا، فقالوا عن أنفسهم أنهم أبناء الله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١٨] وكذبوا وافتروا.
وقالت النصارى عن عيسى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ١٧]، والكفر يضاهي بعضه بعضاً، ويقلد بعضهم بعضاً تقليد الببغاوات وتقليد القردة، كما قال الله عن النصارى وهم يعبدون الصليب والأوثان: ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: ٣٠]، وقد سبقهم من فعل ذلك.
ولقد ذكرت أكثر من مرة أني كنت في متحف نصراني في أرض لبنان، وإذا بالمشرف على هذه الآثار والحفريات يظهر لي صليباً، وقال: هذا الصليب كان قبل عيسى بقرون، فضحكت وقلت له -وهو نصراني-: صدق الله العظيم: ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: ٣٠]، حتى في الصليب النصراني ليس خاصاً بهم، ولكنه تقليد وقدوة؛ تقليد شركي بلا عقل وبلا وعي وبلا فهم وبلا دليل من عقل ولا سلطان من الله، ولا برهان.
((حُنَفَاءَ لِلَّهِ)) أي: مخلصين عابدين له وحده، لا تشركوا به شيئاً في كل هذه الأعمال من حج وصلاة وطاعات وسعي إلى آخر أنواع العبادات.
﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: ٣١] أي: حال كونكم لا تشركون بالله لا شركاً خفياً ولا ظاهراً، فالشرك الظاهر هو عبادة الأوثان والأشخاص وعبادة الملائكة والجن وعبادة الزعماء والرؤساء والقادة، والشرك الخفي أن تصلي أو تصوم أو تتعبد في الجلوة بما لا تفعله في الخلوة، فمع الناس تفعل ما لا تفعله في خلوتك، فهذه يسمى عبادة وتسميع، فتريد أن يقال عنك: عابد زاهد صالح متصدق، فهذا اسمه شرك خفي، ولكن المؤمن الصادق لا تختلف عبادته في الخلوة عن عبادته بين الناس، فهو يعبد الله جل جلاله، فإن اختلى بنفسه فإنه لا يزيد ولا ينقص كما هو، وإن كان القدوة من شيخ أو أب أو متبوع ينبغي أن يظهر عبادته وأعماله؛ ليكون قدوة للغير، وليتخذوا عنه سلوكه وسمته في العبادة؛ ليكون التعلم قولاً وعملاً، حالاً ومقالاً.
((حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)) أي: غير مشركين بالله.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: ٣١].
ضرب الله مثلاً وتشبيهاً بالمشرك بالله فذكر بأن مثل المشرك بالله كمن رفع إلى أعلى مكان في السماء -والعلو وكل ما علاك فهو سماء- فرفع إلى الأعالي ثم رمي، وإذا بالطيور المفترسة والجوارح تختطفه من الجو فتقطعه قطعاً وتفترسه قطعاً، وهكذا قبل أن يصل إلى الأرض، ولم يصل منه إلى الأرض إلا العظام.
وأما التشبيه الثاني: ((أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)) أو إنسان رمي فجاءت عواصف وزعازع فأخذت تتلقفه من هنا إلى هناك إلى أن أوقعته في أعماق هوة وحفرة، وما كاد يصل إليها إلا مدهدهاً ممزقاً قطعاً.
وهكذا قد فقد نفسه في الدنيا كمن تفترسه الطير، وكمن تتلاعب به الرياح العواصف فتمزقه وهو لا يزال في الجو، ثم يرمى به إلى سحيق من الأرض، وهي: المكان العميق من الهوة في الأرض، فلا يكاد يصل إلا ممزقاً، وهذا مثال من الله يبين أن المشرك يعيش هكذا ذليلاً حقيراً متدهدهاً مرمياً منبوذاً لا عقل له، ولا إدراك فيه، ولا فهم له.
وأما الآخرة فعذاب الله أنكى وأشد.